في عشق الوداد والرجاء. من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: الوجـــاوي
لم تكن الكرة وحدها فكرتنا… كان هناك المسرح ودور الشباب، والأحزاب، والرحلات، والأنشطة المدرسية، وعدد من أشكال التعبير والتكوين الأخرى، فلم تسيطر على عقولنا، ولم تستبد بلواعجنا، لم تكن فكرتنا الوحيدة، لذلك لم نتقاتل من أجلها…
لا يوجد أخطر ممن يملك فكرة وحيدة، لأنه يستطيع أن يفعل أي شيء من أجل أن يحافظ عليها…
لذلك تم تهديم كل شيء… لتصبح هي كل شيء لجيل كامل من الشباب لا يعرف غيرها…
لم يكن عشق الفريق الأحمر محض اختيار بالنسبة لي، فتحت عيني على شعاراته تتردد في أرجاء الحي، واسمه المنقوش على الجدران في كل زاوية، ورثته كما ورثت كل الأشياء الأخرى التي تشكلني، وظننت أنها جزء من هوية هذا الحي الشعبي الذي ولدت فيه…
فحينا هو كل تلك الأشياء التي لا يمكن أن أتصوره خارجها… لا يمكن أن أتصوره دون المسجد العتيق، الذي يهرول إليه شيوخ الحي عند كل صلاة. ولا أستطيع أن أتخيله دون النخلات الباسقات اللائي كنا نقذفهن بالحجارة، ليلقين لنا بالرطب الحلو… لا أستطيع أن أستعيد ذكرياته، دون رائحة البحر التي تعبق في أرجائه كل صباح باكر، ولا أستطيع أن أتخيله دون قصبات الصيادين وشباكهم…
حينا هو أيضا… سقاية الماء التي تتوسطه، وحوانيت العطارين والملعب الفسيح والفرن القديم وحكايات رجاله ونسائه… وصراخ الشبان والصبية المجنون حين يفوز الفريق الاحمر، وأهازيجهم الجميلة وراياتهم الحمراء، وهم يطوفون حول الحي، مبتهجين، محتفلين، كأنهم يريدون إيصال الفرحة والخبر السعيد إلى كل بيت…
حينا، لا أستطيع أن أتخيله دون عبارات كتبت على جدرانه البيضاء بخط أحمر عريض، “عاش الوداد”، “وداد الأمة”.
كما كنا متيمين بلاعبي الوداد الكبار، كنا نُجل لاعبي الرجاء المبدعين، لم نكن نرى في الظلمي غير مبدع كبير وظاهرة كروية خاصة، حفرت اسمها في وجداننا، وشكلت جزء من حكايا البطولة التي تدور بيننا، تمازج فيها ما هو واقعي، ينطبق فعلا على اللاعب الكبير، وما هو من وحي خيالنا، خلعناه عليه نحن، كما تفعل الجماهير مع بطلها الشعبي…
كان لحينا لون أحمر، لا يمكن أن تخضب قلبك بغيره من الألوان… ورائحة بحر، لا يمكن أن تستنشق غيرها…
هكذا استقر حب الوداد وعشقها في قلبي…
كان للعبة الجميلة ألقها وروعتها، وكان الحي رافدا مهما لتزويد الفريق الأحمر بلاعبين مهرة، وكان حلم كل صبي يداعب الكرة أن يلعب يوما في الفريق الكبير…
تعلمنا أن الفريق لم يكن مجرد مدرسة للكرة، بل امتدادا لفكرة جميلة شكلت جوهر رجالاته الأولين، وهي تحرير هذا الوطن والذود عنه… كان مبعث فخر لنا، أن الوداد هو مدرسة الوطنية، فـ الزرقطوني كان وداديا، والعالم الفذ المهدي المنجرة كان وداديا… وهو الذي قال ذات يوم، إن لقاءات الوداد لم تكن مباريات في كرة القدم فقط، بل دروسا في الوطنية وإثبات الذات أمام المستعمر.
إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: اعترافات رجاوي… تلك الفرحة التي نستحق
… في الجانب الآخر من المدينة الكبيرة، كان عشق آخر قد تشكل. نتيجة لظروف خاصة، وأخرى لها مسبباتها التاريخية، سيتشكل فريق آخر، لتتهيأ الظروف، ويصبح لكازابلانكا… “ديربيها” الخاص. فمتعة الكرة لا تكتمل إلا بوجود غريم، وخصم خصيم، يعطي للفوز فرحته ومعناه الكبير…
كان للفريق الأخضر طابعه الخاص ولمسته المتميزة… وقّع منذ نشأته على بعد “احتفالي” جميل في الكرة… ففي فلسفة الفريق لم تكن النتيجة هي الغاية، بل ما يبدعه اللاعبون من فرجة… تبادل ساحر للكرة واستعراض لقدرات اللاعبين المهارية، وإرباك للخصوم والاستحواذ الممتع على الكرة، مراوغات و”قنطرات صغيرة” و… كل ما يجعل من الكرة غاية في ذاتها، وليس في ما تحققه من نتيجة أو انتصار…
هكذا، سيتحول الفريق إلى أيقونة للعب الجميل، كما سيستقر في الوعي الجمعي. ونتيجة لظروف تأسيسه، وما أحاط بها من صراع بين المؤسسين المنفصلين عن الوداد/الأم، أنه فريق أبناء الطبقات الشعبية، ضد المحتكرين والمهيمنين لفائدة طبقة خاصة…
هكذا، أصبحت الرجاء هي فريق الشعب، فيمّم نحوها البسطاء والعاشقون، وانخرطوا في تشجيعها.
لم يكن يعني تواجد الفريق الآخر، في ناحية أخرى من المدينة، وجود “تقاطبية” كروية بالنسبة لي… كانت فكرة التباري، ومتعة الديربي هي غايتنا الأولى، والأساس الذي تتشكل عليه عقيدتنا الكروية …
حينا، لا أستطيع أن أتخيله دون عبارات كتبت على جدرانه البيضاء بخط أحمر عريض، “عاش الوداد”، “وداد الأمة”. كان لحينا لون أحمر، لا يمكن أن تخضب قلبك بغيره من الألوان… ورائحة بحر، لا يمكن أن تستنشق غيرها… هكذا استقر حب الوداد وعشقها في قلبي…
الكرة إمتاع ومؤانسة، واحتفالية في المستطيل الأخضر، وكما كنا متيمين بلاعبي الوداد الكبار، كنا نُجل لاعبي الرجاء المبدعين، لم نكن نرى في الظلمي غير مبدع كبير وظاهرة كروية خاصة، حفرت اسمها في وجداننا، وشكلت جزء من حكايا البطولة التي تدور بيننا، تمازج فيها ما هو واقعي، ينطبق فعلا على اللاعب الكبير، وما هو من وحي خيالنا، خلعناه عليه نحن، كما تفعل الجماهير مع بطلها الشعبي…
لم نترك الرجاويين يستأثرون بعشقه، كان للوداديين نصيب كبير في هذا الحب… أغرمنا بلعب الظلمي وسيرته، كما أغرمنا بكبار مروا في مدرسة الرجاء، وشاركنا الرجاويين حبهم، ادريس عشا وعبد الرحيم ومستودع والرياحي… واللائحة لا تنتهي…
إقرأ لنفس الكاتب: هكذا أنقذني الشعر والحب!
أغرمت بالرجاء ولاعبيها، وإن بقيت على عقيدتي لا أبرح عنها، إلا أنني كنت دائما رجاوي الهوى، لم تمنعني وداديتي من ذلك، ولا أجد أبلغ من تعبير “النقايمي” حسن الفد، حين سئل عن انتمائه الكروي، هل هو للرجاء أم للوداد، فكان جوابه نحتا لتوصيف جديد، يعبر بكل بلاغة عن حالتي، حين قال: “وِجاوي”.
… كان السجال والمناكفة في حدود معقولة، لا ننتهي منها إلا لنعود إلى اهتمامات أخرى، لم تكن الكرة فكرتنا الوحيدة… ولعلها نشأت، فوجدت فينا أساسا، ما لم يترك لها حظا لتستبد بنا، وتجرفنا نحو مجاهيلها، وتّسْطِلنا بأفيونها. لم تصيرنا مطية لكل من أراد أن يبرمج الجلد المدور.
لم تكن الكرة وحدها فكرتنا… كان هناك المسرح ودور الشباب، والأحزاب، والرحلات، والأنشطة المدرسية، وعدد من أشكال التعبير والتكوين الأخرى، فلم تسيطر على عقولنا، ولم تستبد بلواعجنا، لم تكن فكرتنا الوحيدة لذلك لم نتقاتل من أجلها…
لا يوجد أخطر ممن يملك فكرة وحيدة، لأنه يستطيع أن يفعل أي شيء من أجل أن يحافظ عليها…
لذلك تم تهديم كل شيء… لتصبح هي كل شيء لجيل كامل من الشباب لا يعرف غيرها…
الحمد لله الذي عفانا مما أبتلى به غيرنا.
أقولها دائماً
الحمد لله الذي عفانا مما أبتلى به غيرنا.