يوسف المساتي يكتب: الأكل العلني في رمضان: بين الدين ومزايدات القانون
بعد الاستقلال، احتفظ المشرع المغربي بقانون ليوطي الذي يجرم الأكل العلني في رمضان، وهو ما يبدو أمرا غير مفهوم. فحتى لو سلمنا بإسلامية الدولة وبكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للتشريع، فإننا لا نعثر في النصوص الدينية والمنظومة الفقهية على أي نص يوجب الحد أو التعزير في حق تارك الصيام. حتى أكثر الآراء راديكالية وتشددا، ذهبت إلى اعتبار ترك الصيام مما يعاقب الله عليه كالزكاة والحج وغيرها من الفرائض وليس مما يوجب عقوبة.
كلما أقبل رمضان إلا وتجدد الجدل في المغرب حول الصيام والإفطار، في حالة من “الهستيريا الجماعية” التي ترفع الصيام إلى درجة المقدس. جدل يتطور أحيانا إلى ممارسة العنف المعنوي والمادي ضد المفطرين في رمضان، في مقابل ارتفاع دعوات حقوقية لإلغاء تجريم الإفطار العلني.
أصل الحكاية: الماريشال ليوطي
تحدثنا بعض الروايات على أن الماريشال ليوطي كان كلما أصيب بوعكة صحية إلا واستدعى طبيبه الخاص؛ ثم يستدعي بعده الفقهاء ليقرؤوا عليه ما تيسر من القرآن والأذكار. وكان بعد تعافيه يقدم لهم الشكر والعرفان، موهما إياهم أن تشافيه يعود إلى ما تلاه عليه الفقهاء من أذكار وآيات، وهو سلوك ضمن مجموعة سلوكيات أخرى اعتمدها ليوطي، وكان يهدف من ورائها إلى التقرب من المسلمين، محاولا تكرار تجربة الجنرال فرانسوا مينو في مصر خلال حملة نابليون، حتى أصبح يدعى بالحاج مينو.
تستوقفنا ردة فعل النبي تجاه الرجل الذي مارس الجنس مع زوجته وهو صائم، إذ عالج الموقف بكل هدوء وروية ودونما غضب، بل اعتبر الأمر عاديا جدا؛ وهو نفس منطق النص القرآني الذي ظهر بشكل جلي في سبب نزول الآية 187 من سورة البقرة
نجح ليوطي في هدفه إلى حد كبير، حتى أصبح بدوره يلقب من طرف البعض بالحاج. في هذا السياق إذن جاء تجريم الأكل العلني في رمضان، والذي حاول من خلاله ليوطي أن يظهر بمظهر الحامي لقيم المغاربة. هذا التجريم كان يمكنه، في نفس الوقت، من ضبط سلوكات بعض المعمرين أو المغاربة المنساقين معهم، خوفا من مواقف قد تتجاوز ردة فعل تجاه أكل علني لتتحول إلى انتفاضة في وجه فرنسا ككل.
إقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
بعد الاستقلال، احتفظ المشرع المغربي بهذا القانون ضمن قوانين أخرى، وهو ما يبدو غير مفهوم، فحتى لو سلمنا بإسلامية الدولة وبكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للتشريع، فإننا لا نعثر في النصوص الدينية والمنظومة الفقهية على أي نص يوجب الحد أو التعزير في حق تارك الصيام. حتى أكثر الآراء راديكالية وتشددا، ذهبت إلى اعتبار ترك الصيام مما يعاقب الله عليه كالزكاة والحج وغيرها من الفرائض وليس مما يوجب عقوبة.
لقد ذهبت بعض الآراء إلى اعتبار ترك الصيام كبيرةً من الكبائر، وهذا في حد ذاته أمر فيه نقاش، بما أن الكبائر محددة بنصوص حديثية. إلا أن الأكيد مع ذلك، أنه لا حد شرعي على مرتكب الكبيرة، إلا عند بعض فرق الخوارج ومتطرفيهم على الخصوص، وهو ما يسائل وبحدة المرجعية التي يستند لها الفصل 222، والذي يتعارض مع الشريعة الإسلامية ومع ما تقرره الأطر المرجعية لحقوق الإنسان في بعدها الكوني، والتي تعضدها ديباجة دستور 2011 التي تنص على سمو الاتفاقات الدولية على القوانين الوطنية.
نصوص متسامحة مع عدم الصيام
إذا ما نحن ألقينا نظرة على الشريعة الإسلامية، نعثر على ما يضع هذه الهستيريا الجماعية حول صوم رمضان محط تساؤل، فقد ورد في كتاب الصوم في صحيح البخاري: “حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:
ذهبت بعض الآراء إلى اعتبار ترك الصيام كبيرةً من الكبائر، وهذا في حد ذاته أمر فيه نقاش، بما أن الكبائر محددة بنصوص حديثية. إلا أن الأكيد مع ذلك، أنه لا حد شرعي على مرتكب الكبيرة، إلا عند بعض فرق الخوارج ومتطرفيهم على الخصوص، وهو ما يسائل وبحدة المرجعية التي يستند لها الفصل 222
“بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر، والعرق: المكتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدَّق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك”، متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1936)، ومسلم (1111).
إقرأ أيضا: البنوك الحلال: ربا مستتر تأويله الشريعة 1\3
لقد تكرر هذا الحديث في مواضع عديدة من صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث والتفسير والفقه، وفي صيغ مختلفة، لكنها تحيل جميعها على نفس المعنى.
تستوقفنا هنا ردة فعل النبي تجاه الرجل الذي مارس الجنس مع زوجته وهو صائم، إذ عالج الموقف بكل هدوء وروية ودونما غضب، بل اعتبر الأمر عاديا جدا؛ وهو نفس منطق النص القرآني الذي ظهر بشكل جلي في سبب نزول الآية 187 من سورة البقرة: “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم…إلى آخر الآية”، فقد ورد في سبب نزول هذه الآية: “أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن الفضل، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا إسحاق بن أبي فروة، عن الزهري أنه حدثه عن القاسم بن محمد قال: إن بدء الصوم: كان يصوم الرجل من عشاء إلى عشاء، فإذا نام لم يصل إلى أهله بعد ذلك ولم يأكل ولم يشرب. حتى جاء عمر إلى امرأته فقال: إني قد نمت، فوقع بها. وأمسى صرمة بن أنس صائما فنام قبل أن يفطر- وكانوا إذا ناموا لم يأكلوا ولم يشربوا- فأصبح صائما وكاد الصوم يقتلهم، فأنزل الله عز وجل الرخصة”، ونكتشف هنا مقدار التسامح الذي اتسمت به النصوص الدينية تجاه مفطري رمضان.
من النصوص التي تؤيد معنى التسامح مع إفطار رمضان نجد أيضا: “حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم”.
من النصوص التي تؤيد هذا المعنى نجد أيضا: “حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم”.
إقرأ لنفس الكاتب: الكيف بين اليهودية، المسيحية والإسلام: علاقة الكيف بتدين المغاربة 2\2
فهؤلاء صحابة النبي أثناء سفرهم لم يحاسب أحد منهم الآخر، بل اتسم موقفهم باحترام رغبات بعضهم البعض، وهو ما سيؤكده إفطار النبي علانية أثناء سفره ليؤسس لهذا السلوك، فقد ورد في كتاب الصوم عند صحيح البخاري: “حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر”.
إن كل هذه الشواهد، وغيرها كثير في كتب الثراث الاسلامي، ونشير هنا إلى أننا اقتصرنا على إيراد ما تواتر الحديث عن صحته وخاصة من صحيح البخاري الذي يعتبره أهل السنة والجماعة أصح كتاب بعد القرآن،-لتجعلنا نقف على منطق التعاطي مع الصيام، والذي اتجه إلى التخفيف من شدته والبحث عن الرخصة والأعذار والتسامح مع المفطرين حتى في حالة عدم وجود عذر شرعي كما تكشف عنها النوازل الواردة آنفا؛ والنظر إلى الصيام كمسألة تعبدية تخص القائم بها، وهذا ما يؤكده حديث ورد على لسان عمر بن الخطاب، وهو من الأحاديث القليلة التي رويت عنه، وقد أورده ابن حجر العسقلاني في كتاب المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: “لا يغرنك صلاة امرئ، ولا صيامه، ولكن إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا أشفى ورع”. وقد ورد الحديث بصيغ أخرى ولكنها تحافظ على نفس المعنى في عدة كتب أخرى، ما يجعلنا نتجه دوما صوب التأكيد على أن الصيام، وسائر الأعمال التعبدية، يدخل في إطار العلاقة المباشرة بين العبد وربه.
نجح ليوطي في هدفه إلى حد كبير، حتى أصبح بدوره يلقب من طرف البعض بالحاج. في هذا السياق إذن جاء تجريم الأكل العلني في رمضان، والذي حاول من خلاله ليوطي أن يظهر بمظهر الحامي لقيم المغاربة. خوفا من مواقف قد تتجاوز ردة فعل تجاه أكل علني لتتحول إلى انتفاضة في وجه فرنسا ككل.
هذه العلاقة يؤكدها حديث قدسي ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: “حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها”، تستوقفنا هنا عبارة الصيام لي وأنا أجزي به لنرى كيف جعل الله مسألة الصيام خاصة جدا بينه وبين الناس، واستأثرها بوضع اعتباري لم ترق إليه أي عبادة أخرى.
إقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات.. 2/1
إن كل ما ذكرناه آنفا يجعلنا نتساءل اليوم، أليس عقاب المفطر هو بمثابة تطاول على ما جعله الله خاصا به دونما البشر؟
بأي حق إذن يأتي من يتطاول على الله ليعاقب الناس نيابة عنه؟ وبأي حق تصبح الدولة والناس أوصياء على صيام الناس وإفطارهم؟
ألا يعتبر هذا نقيضا للمنطق الذي حاول النص القرآني والتشريع النبوي التأسيس له؟
ألا نجد أنفسنا إزاء تناقض كبير بين الغاية من تشريع الصيام كشعيرة تعبدية، وبين تحولها إلى أداة للمزايدة؟
ألا يفتقد تجريم الأكل العلني للشرعية الدينية والحقوقية والقانونية وحتى التاريخية؟