“كلَّما كان الشعب مضطهدا يائسا كلَّما كان أكثر استرسالا في أحلام المكافآت التي سيتلقاها في الجنة”
صدق الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، وكذب الدَّجالون الذين ينفخون في تلك الأوهام حتى تنتفش، وتنتفخ، وتلقي بشركها على الذهنيات المغيبة لتصنع أربابا يحاكمون الخلق وفق نظرتهم الخاصة للدين. هؤلاء الذين …
صدق الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، وكذب الدَّجالون الذين ينفخون في تلك الأوهام حتى تنتفش، وتنتفخ، وتلقي بشركها على الذهنيات المغيبة لتصنع أربابا يحاكمون الخلق وفق نظرتهم الخاصة للدين.
هؤلاء الذين يحلمون ليل نهار بعودة (أمجاد الخلافة) المزعومة، ولمِّ شمل الأمة الضائعة في الإنحلال على حد تعبيرهم، ومحاربة كل أشكال العلمنة التي ساقها الانفتاح على الغرب (الكافر) إلى العالم الإسلامي الذي كان يرفل في ثوب الإيمان والتقوى والصلاح على أيَّام (السلف الصَّالح)، الذي سرعان ما مُزِّق على أيدي (الخلف الطَّالح) بعد ضياع الخلافة، والتخلي عن الحكم بالشريعة، والإرتماء في أحضان التغريب، والعلمنة، والتحديث.
عليك، إن أردت أن تكون منهم، أن تتقمص الشخصية نفسها التي يتقمصونها، حتى يمسي الفرد في المجتمع صورةً واحدة، جسدٌ بلا عقل، وتديُّن شكلي مزيَّف بلا أخلاق.
في كلِّ زاويةٍ، وفي كلِّ ركن تجد أمثال هؤلاء الحالمين باسترداد ما ليس لهم من الأصل. تجد أنهم يصرخون ويطلقون العنان لأحبالهم الصَّوتية بالدعوة إلى العودة إلى أيَّام الخلافة وأيام بني أمية وبني العباس، وغيرهم ممن أزهقو الأرواح، وأسالو الدماء باسم ما يسمى ظلما وبهتانا (الفتوحات الإسلامية)، وما هي سوى حروب من أجل التوسع، والإثخان في الأسارى لملئ قصور (الخلفاء) بالسبايا، والجواري الحِسان، بعد انتزاع الفتاوى من أفواه بعض الفقهاء المطبِّلين للدعوة إلى النَّفير والجهاد ومسابقة القدر إلى جنانٍ ذوات أفنان، وجوارٍ قاصرات الطرف لم يطمثهنَّ قبلهم إنسٌ ولا جان، وهذا نظرا لهوس القوم بافتضاض البكارة، واشتهاء العذارى.
اقرأ أيضا: لننس “الدين الصحيح” ولنتحدث عن “حرية الاعتقاد”
فإلى حين، كانت (دار الإسلام) تمتد على رقعة جغرافيَّة لا يستهان بها تحت يافطة (الفتوحات). في المقابل، كانت (دار الكفر) تتمرَّغ في بِركِ التشرذم والتَّفرقة. بيد أنه، وعلى حين غرَّة، استفاق القوم ذات يومٍ على مدى تخلُّفهم، وانحطاطهم أمام الغرب المتقدم، فكأنهم صعقوا، وكأن لسان حالهم تلك اللحظة يتمتمُ بالقول: “يا ويلتنا! من بعثنا من مرقدنا هذا؟” أو “كم لبثنا في وهمنا هذا عدد سنين؟”.
لكن، فات الأوان على التحسر، وعضِّ بنان النَّدم؛ فقد انتهى زمن الخلافة، وأخذ في رِكابه أبا بكرٍ، ومعاويَّة، وأبا جعفرٍ والرَّشيد الذي لطالما تفاخروا بمقالته (يا سحابة أمطري أنَّى شئت، فسيحمل إليَّ خراجك) في كنايةٍ على قوَّة وعظمة الإسلام، ولو أنَّهم تأملوا كلمة (إليّْ) لعلموا ما كان يدور في خلد الرَّجل.
إنَّ هذا الغرق الزَّائد عن الحدِّ في الماضوية والحنين، خلق من بعض المعتنقين للدين الإسلامي كائنات طوباوية لا تُعايش عصرها، ولا تتماشى مع حاضرها
حتى إن لم يستشهدوا بالرَّشيد، انطلقوا إلى التَّمسُّح بعدل عمر، وشدَّة خالد بن الوليد على (الكفار)، وحِلم عُمر بن عبد العزيز، ثم سرعان ما يتعلَّقون بأسمال عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين زنكي الذي أنقذ محمد رسول الإسلام من يهوديين كادا يستخرجان جثَّته من القبر بعد أن أتاه مستنجداً به في منامه حسب الروايات، أو يناجون عودة صلاح الدين، والحاجب المنصور، ويوسف بن تاشفين، واللائحة طويلة.
اقرأ أيضا: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
إنَّ هذا الغرق الزَّائد عن الحدِّ في الماضوية والحنين، خلق من بعض المعتنقين للدين الإسلامي كائنات طوباوية لا تُعايش عصرها، ولا تتماشى مع حاضرها، عدا أن تستقبل مستقبلها؛ فهي كائنات تاريخية، يحيا فيها جسد اليوم بذاكرة الأمس.
مع تفاقم المشاكل الإجتماعية التي لا حصر لها، بدأ هؤلاء يبحثون عن مخرجٍ لهذه الأزمة، لكن ليس في الواقع المُعاش، بل في المابعد، وفي الميتافيزيقا. إذ ذاك، أضحوا يسبحون في عالمٍ من المتخيلات، وأمسوا يسترسلون أكثر وأكثر في أحلام المكافآت في العالم الغيبي، والتي سيتلقَّونها في الجنَّة خصِّيصا، ناسيًّين، أو متناسيين عن عمد إيجاد حلٍّ للكمَّ الهائل من المشاكل التي تحاوطهم من كلِّ جانب.
على حين غرَّة، استفاق القوم ذات يومٍ على مدى تخلُّفهم، وانحطاطهم أمام الغرب المتقدم، فكأنهم صعقوا
آنذاك، ينقطع هؤلاء عن الواقع، ويبدؤن رحلة البحث عن تذكرة سفرٍ للآخرة، التي يرونها ملك يمين أقوامٍ بعينهم.
عليك، إن أردت أن تكون منهم، أن تتقمص الشخصية نفسها التي يتقمصونها، حتى يمسي الفرد في المجتمع صورةً واحدة، جسدٌ بلا عقل، وتديُّن شكلي مزيَّف بلا أخلاق.
هكذا، وعند الإنغماس مع أولئك القوم، تُحال على غاسلي الأدمغة من أجل حشوها بأحاديث الردة، وآيات الجهاد، وتراث التكفير، من تم الإرسال إلى التفجير من أجل نيل شهادةٍ مزيفة، والدخول إلى جنة السَّماء، وترك جنَّة الأرض لهم يتمتعون بها…
هنا، يتضح جليا ما قاله الفيلسوف الفرنسي فرنسوا ماري أوري فولتير: “من الصَّعب أن تحرر السذج من الأغلال التي يبجِّلونها”. ما دام بعض المعتنقين للمعتقد الإسلامي يقدسون الموروث الديني، ويبجلون التراث، ويحيطون التاريخ بهالةٍ من التقديس، ويحيون بتضخُّم الأنا، فمن الصعب أن يُخلق الإنسان المتحرر من كل شئ سوى سلطة العقل، والحرُّ الذي لا يتقيد إلا مع ما يتوافق مع المبادئ الإنسانية السامية بعيدا عن التسلط الديني، ومشتقاته.
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: تأملات حول موقف المسلمين من العلمانية