من تونس، رحمة خميسي تكتب: حكم الاختلاف في المجتمع التونسي
“الاختلاف لا يفسد للود قضية” عبارة لا نجد لها صدى في المجتمع التونسي الذي يبعد كل البعد عن ثقافة الاختلاف وقبول الآخر المختلف عنه. يبدو أن قدر الاختلاف في مجتمعنا …
“الاختلاف لا يفسد للود قضية” عبارة لا نجد لها صدى في المجتمع التونسي الذي يبعد كل البعد عن ثقافة الاختلاف وقبول الآخر المختلف عنه.
يبدو أن قدر الاختلاف في مجتمعنا محكوم بالفشل، وهو ما يحيلنا على التأمل قليلا في أسباب الصراعات السياسية والفكرية بين كافة الأطياف، والتي تعود بالأساس إلى عدم قبول الرأي المختلف ورفض كل شخص يحمل فكرة مختلفة.
لكن المثير للريبة الآن، هو أن هذا التطاحن والصراعات المتتالية قضت على كل رغبة جدية في التعايش السلمي بين الأفراد وتقاسم المكان والزمان والأحداث دونما اللجوء إلى النزاعات العرقية والفكرية والدينية، ومحاربة كل شخص حامل لفكر ومعتقد وتوجه مختلف عنه.
اقرأ أيضا: هذا أخطر أنواع اللاتسامح وأكثرها شيوعا في المجتمعات… وهكذا يمكن مواجهته! (الجزء الأول)
أصبحت الشخصية التونسية متوغلة في “الأنا” محتكرة الوجود لنفسها عبر إقصاء الآخر واستضعافه، ويمكن أن يطال رفض الآخر التعدي عليه ماديا ومعنويا وممارسة الضغط النفسي عليه. فهو لا يرى داع لمشاركته نفس المكان، بل لا معنى لوجودهما معا.
من العسير أن نتحدث الآن أو حتّى مستقبلا عن اعتناق ثقافة الاختلاف في تونس، طالما أنّ الدولة نفسها مازالت سياستها قائمة على إقصاء ذوي البشرة السمراء من المناصب الوزارية والسياسية. حتى في الإعلام، لم نشهد حضور مقدم أخبار ذي بشرة سمراء منذ نشأة التلفزة التونسية
في سياق الاختلاف، أصبحت لديّ قناعة راسخة أنّ التونسي يخشى الاختلاف، يهاب من كل فكرة جديدة أو رؤية مختلفة أو حتى تفسير جديد لنص قرآني. يرى في ذلك مصدر خوف له من زعزعة قناعاته التي تكلست مثل طبقة من الإسمنت. فهو يخشى مغادرة حيّز الأمان والثبات الذي يعيش فيه، زاعما أن كل تغيير هو هدم لكل الثوابت والمسلمات والمعتقدات التي آمن بها وأفنى عمره إمّا في تشكيلها أو توارثها عبر الأجيال السالفة.
اقرأ أيضا: التسامح: مفهوم ينخره النفاق؟ (الجزء الثاني)
يحق لي أن أستشهد في هذا الإطار بالجدل القائم بخصوص مسألة المساواة في الميراث بين الجنسين، والتي خلقت من حولها أزمة حوار بين الأفراد؛ حيث احتشد الكثيرون للاحتجاج عن رفضهم لما أسموه خرقا للنصوص القرآنية ومخالفة الشريعة باعتبارها من الثوابت غير القابلة للاجتهاد في ذهن التونسي. بل اعتبروا ذلك ضربا لمعتقداتهم الدينية ومحاولة علمنة الدولة. لكن الأصح في هذا الأمر أن النزعة الذكورية هي المحرك الأساسي في هاته الحركات الاحتجاجية، طالما أن الرجل ينظر للمرأة أنها كائن من درجة ثانية لأنها تختلف عنه.
أصبح التعامل مع أشخاص مختلفين عنّا في اللّون أو الشكل أو الدين أو الجنس مبنيّ على الحقد والكراهية
من العسير أن نتحدث الآن أو حتّى مستقبلا عن اعتناق ثقافة الاختلاف في تونس، طالما أنّ الدولة نفسها مازالت سياستها قائمة على إقصاء ذوي البشرة السمراء من المناصب الوزارية والسياسية. حتى في الإعلام، لم نشهد حضور مقدم أخبار ذي بشرة سمراء منذ نشأة التلفزة التونسية. لا يقف الأمر عند حاملي البشرة السمراء فقط بل يتعدى إلى حاملي الإعاقة، لأنه ينظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية، مختلفين عن سائر القطيع، إذن لا يحق لهم المشاركة في الحياة العملية ولا السياسية ولا حتى الاجتماعية.
لا أدري حقا لما تحوّل الاختلاف إلى مصدر شحذ للأحقاد في نفوس البشر، فأصبح التعامل مع أشخاص مختلفين عنّا في اللّون أو الشكل أو الدين أو الجنس مبنيّ على الحقد والكراهية.
أسترجع في هذه اللّحظة واقعة صغيرة حدثت أمام أنظاري منذ أسبوع. بينما كنت أنتظر قدوم الحافلة، جلست بجانبي فتاة لون شعرها أزرق وتضع حلقة في أنفها.
تخيلّوا لو كنّا نعيش في هذه الأرض على شاكلة واحدة، على دين واحد، على جنس واحد، على لون واحد، حتما لن يكون هنالك معنى حقيقي لوجودنا من عدمه
أخذت على عاتقي رصد نظرات المارة إليها، فكانت كلها مغلفة بالازدراء والاشمئزاز من شكلها المختلف، لأنه في “ثقافتنا المنفتحة جدا” لا يعبّر ذلك إلاّ عن مظاهر الانحلال والانفلات من المنظومة الأخلاقية التي وضعها المجتمع لتضييق خناق كل من تتوق نفسه إلى التحرر من قيودهم الرجعية، وكل من يخول له عقله التفكير في سلك منهج مختلف عمّا هو سائد.
اقرأ أيضا: التسامح: هل يمكن القضاء على اللاتسامح “الشعبي”؟ (الجزء الثالث)
آسفة حقا أني لا أملك إجابة للسؤال الذي طرحته منذ قليل عن سبب تحوّل الاختلاف إلى مصدر كراهية وحقد، ولكن كل ما أعرفه أنّه، لو وقع استثمار الاختلاف على أنه قيمة إيجابية وستدرّ بالنفع على المجتمع والدولة في آن، لكنّا تجنبنا كافة أشكال العنف والصّدام الحاصلة بسبب النظر إليه بعين الخوف منه والحقد عليه.
في نهاية المطاف، أريد أن أقول لمن نصبّوا أنفسهم أعداء للاختلاف: فقط تخيلّوا لو كنّا نعيش في هذه الأرض على شاكلة واحدة، على دين واحد، على جنس واحد، على لون واحد، حتما لن يكون هنالك معنى حقيقي لوجودنا من عدمه. فنحن أشبه بقوس قزح الذي لن يظهر جماله إلاّ باختلاف ألوانه.
اقرأ أيضا: جريمة قتل في تونس تودي بحياة رئيس جمعية الجالية الإيفوارية