من كندا، نبيل جميل سليمان يكتب: هناك فقدت عذريتي
لا زلتُ أذكر تلك الفتاة الجميلة، رغم مرور ثلاث عقود على ذلك اليوم. كنتُ يومها، أجلس في عيادة مختبر التحليلات المرضية في بغداد الجديدة، حين دخلت علي. شدّتني إلى …
لا زلتُ أذكر تلك الفتاة الجميلة، رغم مرور ثلاث عقود على ذلك اليوم. كنتُ يومها، أجلس في عيادة مختبر التحليلات المرضية في بغداد الجديدة، حين دخلت علي.
شدّتني إلى عينيها نظرة غريبة مذعورة تبحث بلهفة في عيني عن النجدة. رغم مرور كل هذه السنين، لا زالت تلك النظرة محفورة في ذهني. أو لعلها صارت جزءاً مني. لم تكن وحدها. كانت أختها برفقتها. طلبت مني، وبصوت منفعل:
– أرجو يا دكتور أن تجري لنا هذا الفحص.
أخذتُ ورقة الطبيبة من يدها، وقد كتب عليها: “Pregnancy Test”، بمعنى فحص الحمل. لكني فوجئت، ولأول مرة، بأن الطبيبة (ف. ي.) كتبت باللون الأحمر (VIRGIN !!!)، أي أنها عذراء …!!!
لم يكن الأمر بسيطا، وكنت أواجه هذه الحالة للمرة الأولى … طلبتُ منها أن تملأ العبوة الخاصة بتحليل البول. حال استلامي للعينة، قمتُ بإجراء الفحص… وخلال دقيقتين، ظهرت النتيجة، وكانت “positive”، موجبة: لقد كات بالفعل حبلى!
اقرأ أيضا: ساكا في بلاد الذكورية السويدية
قمتُ بطباعة النتيجة، وناديت الفتاة، فجاءتني. لم يكن وجهها هو وجه الفتاة التي رأيتها منذ لحظات، كان يبدو كوجه امرأة عجوز شاخت قبل الآوان، ورسم الحزن على وجهها تعبيراً غريباً أشبه بوجوه الموتى. سلمتها الظرف، فقالت لي بصوت مشروخ:
– طمئني يا دكتور، ما هي النتيجة من فضلك؟
قلتُ لها: لا أستطيع إخبارك بالنتيجة، فهذه مهمة طبيبتك وهي التي ستخبركِ.
هزّت رأسها بخجل، وكست عينيها الذابلتين سحابة أوحت بدموع سالت وجفت في ذات الوقت. سكتت دقيقة كي تسترجع أنفاسها بعد غصّة، ثم غادرت العيادة بعد أن أعطتني أجرة التحليل، وأنا صامت حائر مفكّر مترقب، بل ومتأكد بأن هناك كلاما سيبدأ لاحقاً. بعد فترة قصيرة، عادت الفتاة مرة أخرى وبيدها ورقة جديدة من الطبيبة. لما استلمت الورقة، أحسستُ بقطرات من الدموع السخينة قد تساقطت على يدي من أجفانها، وكأن أجفانها شفاه تجيبني بالدموع عن ونّة ألم.
مجتمعنا سيعتبر هذه الفتاة فاسدة لأنها سلمت نفسها. سيحاكمها باسم الدين. لكنه لن يحاسب ذلك الشاب؛ رغم أن المعيار الديني يفترض أن يطبق عليه أيضا.
هذه المرة، طلبت الطبيبة إجراء فحص “Vaginal Swab for Culture & Sensitivity Test”، أي مسحة مع زرع وفحص الحساسية. طلبتُ من زميلة لي في المختبر أن تقوم بإجراء المسحة. يتعلق الأمر بتحليل تتطلب نتائجه انتظارا لمدة ثلاثة أيام. ناديت الفتاة وأخبرتها بالأمر، وأنا أكتب لها إيصالاً باستلام النتيجة في اليوم الثالث. نظرت إليّ متنهدة، وقد امتقع وجهها وترقرت الدموع في عينيها، وباحت أجفانها بسرائر نفسها؛ ثم قالت بهدوء لا يتلاءم مع الأعاصير التي كنت أراها في عينيها:
اقرأ أيضا: المثلية الجنسية كموضوع للتفكير. 1- مرض أم جريمة؟
– إن نفسي حزينة ومتألمة، وقد وجدت الراحة بإنضمام روحي إلى روح أخرى تماثلها بالشعور. هذا ما وجدته فيك يا دكتور. سأحكي لك حكايتي: كنت طالبة بالسنة الأولى بكلية الإدارة والاقتصاد في جامعة المستنصرية ببغداد، وكنتُ أحلمُ بتحقيق الطموح والوصول إلى ربيع الحريّة في الحياة الجامعية. عند بدء العام الجامعي الجديد، تعرفت على طالب في السنة الرابعة، وذلك خلال حفلة التعارف للطلبة الجدد في الكلية. بعد تعارفنا الأول، استدرجني وأغواني للخروج سوية إلى جزيرة بغداد السياحية. هناك، عشت معه لقاءا ساخنا تصورت أني فقدت على إثره عذريتي. الكارثة أني لم أفقد تلك العذرية، لكني حملت في أحشائي طفلا منه….
بعد تلك الحادثة، ضاقت بي الدنيا وتغير مجرى حياتي. أصبحتُ لا أطيق أحداً ولا أجدُ بنفسي رغبة في أي شيء… فقدتُ الإحساس بالأمان… كرهتُ التعامل مع من حولي… بكيتُ كثيراً، وكنتُ لا أنام… كان التفكير يقتلني أينما كنت وأينما ذهبت!! كيف أتصرف وكيف أخرج من هذه المصيبة؟ ماذا أخبر أهلي وماذا أقول لهم؟
مع الأيام، تضاعفت همومي حتى أصبحت كابوساً ثقيلاً لا أستطيع البوح به لأحد… ندمتُ على كل ما فعلت، وكأن ما أصابني كان عقاباً لي على هذا التمادي في علاقة تعدت مراحل الإعجاب !!
اقرأ أيضا: الحدث: مصور فوتوغرافي يرفض تزويج طفلة
بقيتُ أكثر من شهرين أحمل ألمي بقلبي، وأدعوا الله أن “يستر عليّ”؛ مما دفعني أن أطلب منه مراراً أن يتقدم لأهلي ليطلب يدي. وهنا، كانت الصعقة عندما قال لي:
– “لقد أمضيتُ أربع سنوات في هذه الكلية وأنا ألعب لعبتي باصطياد ما يحلو لي من طالبات السنة الأولى. فمن سلمت نفسها، لا تصلح أن تكون لي زوجة… هذه غلطتكِ، وكل شيء كان برضائكِ. أنا لم أجبركِ على شئ …!”
معظم الكتابات أو المعلومات المتعلقة بالمرأة كانت بأقلام الرجال. بالتالي، فهي ليست تعبيراً دقيقاً عن “حقيقة” المرأة، بقدر ما هي “وجهة نظر” الرجل في المرأة؛
… بقيتُ أنا محدقاً في وجهها، مصغياً لأنفاسها المتقطعة، صامتاً متألماً معها ولها. لم أجد في جعبتي من ألفاظ سوى هذه:
– “إن قلب المرأة ينازع طويلاً ولكنه لا يموت.. روحها ربيع الفصول… وحبها نبع الحياة …”
حجبت وجهها بيديها والتفتت صامتة حائرة مودّعة، وكأني بها تقول: “لتكن مشيئتك يارب”.
هي حكاية موجعة تتكرر للأسف في مجتمعاتنا، التي لا زالت ما زالت تكرس نظرتها السلبية للمرأة. نظرة غير سوية، نتجت عن ضغوط المجتمع الذكوري وكبته لنموها. مجتمع يشجع على أن تكون المرأة أداة جنس، وينظر لها كجسد فقط.
مجتمع سيعتبر هذه الفتاة فاسدة لأنها سلمت نفسها. سيحاكمها باسم الدين. لكنه لن يحاسب ذلك الشاب؛ رغم أن المعيار الديني يفترض أن يطبق عليه أيضا.
مجتمعاتنا تحدد صفات الأنوثة في المرأة لتكون في خدمة الرجل وإرضائه. أي أن تتميز الأنوثة في المرأة بصفات الخدم المطيعين المستسلمين الضعفاء. أما الرجولة، فهي أن يتميز الرجل بصفات الأسياد من قوة إيجابية وحزم وعقل وحكمة. من هنا، استمد المجتمع مفهوم “الشرف”. “شرف الفتاة هو مثل عود الكبريت، يشعل لمرة واحدة”… بعدها، تنتهي وتلقى في المزبلة. أما شرف الرجل، فيمكن أن يشعل عشرات، بل مئات المرات ولا يستهلك أبداً.
مأساة هذه الفتاة، وغيرها، لم تتوقف عند هذه النظرة فحسب، بل إن قوانين وشرائع هذه المجتمعات، لم ولن تنصفها. هي واحدة من ضحايا التناقض بين العادات والأعراف والقوانين والدين.
وها نحن مرة أخرى أمام قراءة رجولية لحكاية امرأة\نساء من مجتمعاتنا. ما أود قوله إن معظم الكتابات أو المعلومات المتعلقة بالمرأة كانت بأقلام الرجال. بالتالي، فهي ليست تعبيراً دقيقاً عن “حقيقة” المرأة، بقدر ما هي “وجهة نظر” الرجل في المرأة؛ وما أكبر الفارق بين الحقيقة وبين وجهة النظر. مهما كنتُ ملماً وقريباً من هذه الحالة أو غيرها من الحالات التي تخص المرأة، سوف لن أنقل حقيقة مشاعر المرأة وما ينازع قلبها وما تحمله في أحشائها من ألم ومرارة وغصّة.
لا شك أن هذه القصة الحقيقية تفرض علينا أن نكتب عنها لكوننا مسؤولين جميعاً عن هذا الظلم الذي يلحق بالمرأة اليوم كما هو بالأمس، فأنا رجل وجريمة من يدّعون الرجولة، أننا ندرك مدى تعاستنا وثقل آثامنا وذنوبنا تجاه تلك التي تعطينا الحياة وتكمّلنا بالمحبة. أما أنتِ أيتها المرأة، فأيقظي قلبكِ وأحكمي ضميركِ، فالذئاب الخاطفة تعجّ في الحقول المترعة.
* نبيل جميل سليمان كاتب عراقي مقيم بكندا