من اليمن، محمد علي عطبوش يكتب: سحر جورجيا بعيون عربية
مرت سنة على وجودي في جورجيا، ولابد من مشاركة ملاحظاتي التي عادةً ما تكون بعقلية السائح لا عقلية المقيم، كما وصفتها إحدى الصديقات. جورجيا من الدول التي لايمكن تجاهل مقارنتها …
مرت سنة على وجودي في جورجيا، ولابد من مشاركة ملاحظاتي التي عادةً ما تكون بعقلية السائح لا عقلية المقيم، كما وصفتها إحدى الصديقات.
جورجيا من الدول التي لايمكن تجاهل مقارنتها ببلدك الأم، حتى حين تنظر إليها بعين المشاهد العادي..
أول ما يسترعي انتباه الزائر هنا، هو هذا الأمان العجيب والسكينة غير المعتادة، خاصة بمقاييسنا نحن القادمون من دول الشرق الأوسط المزدحمة بالصراعات والسكان.
كيف لدولة عريقة ذات تاريخ ولغة وثقافة مزجت الشرق بالغرب، والمسيحي بالإسلامي، والقوقازي بالسلافي بالعربي، ألا يكون فيها غير 4 ملايين فقط؟ أين السكان؟ هل يُعقل أن ستالين (واسمه الحقيقي باللغة المحلية هو سوسو) قضى عليهم؟! ستالين الجورجي الذي ما يزال منزله محفوظاً بجانب متحفه، يُعتبر ميلاده مناسبةً وطنية، ويراه الجورجيون مناضلا شريفا أحب بلده بغض النظر عن “كل شيء” ..
إذن، عدد قليل، وشعب قبلي، عاصر حروبا مدمرة آخرها قبل بضع سنوات. لا لوم عليه حين يهرع إلى التمسك الشديد بهويته، مما قد يُفهم كعنصرية أو رفض للأجانب. على العكس، فإن المواطن الجورجي وخاصة القبلي، مثل العربي، شهم ومضياف وكريم، لكنه في نفس الوقت، مثل العربي أيضاً، معتز كثيراً ببلده مفتخر بهويته وثقافته ولا يعرف العالم إلا عبرها. يقارنه بها. العالم في جهة و “ساكرتفيلو”، الاسم المحلي لجورجيا، في جهة مقابلة.
كيف لدولة عريقة ذات تاريخ ولغة وثقافة مزجت الشرق بالغرب، والمسيحي بالإسلامي، والقوقازي بالسلافي بالعربي، ألا يكون فيها غير 4 ملايين فقط؟
يخشى الجورجي كثيراً من اندثار لغته “الكرتولية”. سترى ذلك في عينيّ أي جورجي ينظر إلى حروف عربية في لافتة مطعم عربي. كيف لا وأنتم العرب الغزاة في نظره؟ لقد قرأ في مقاعد الدراسة عن تاريخكم الدموي ضد بلاده وديانته. بالمناسبة، ينظر الجورجيون للعربي تماماً كما ينظر العربي للتتار، واسمهم في الكرتولية أيضاً التتار.
(القانون) له احترامه هنا، إذا تسببت في (ضرر) ل(آدمي) ستحتسب ضدك (جريمة) وتكتب اسمك على (دفتر) ب(قلم) وب(خط) واضح مع كتابة (التاريخ)، وربما تدفع (خردة) تخرجها (نقدا) من (جيب) ال(شروال)، قبل أن تواصل يومك وتحتسي (القهوة) وبيدك ال(فنجان)، تلتقط (صوراتي) وبجانبك قطعة خبز على ال(طبق)، اشتريتها من ال(خبازي) وتتمتع ب(هواء) تغمره ال(بركة).
سترى ذلك في عينيّ أي جورجي ينظر إلى حروف عربية في لافتة مطعم عربي. كيف لا وأنتم العرب الغزاة في نظره؟ لقد قرأ في مقاعد الدراسة عن تاريخكم الدموي ضد بلاده وديانته.
كل هذه الكلمات الجورجية ذات الأصل العربي (الكلمات الموجودة بين قوسين في الفقة أعلاه)، شاهدة على هذه الحقبة من تاريخ البلاد الممتد إلى عصور ما قبل التاريخ… كهوف بروميثيوس وأسطورة اكتشاف النار هنا. النار التي قُدست، مكونة لنا بواكير السحر والدين، ما تزال آثار قدحها الحجرية محفوظة إلى جانب آثار الديناصورات. الكتابة الجورجية هي إحدى أقدم الكتابات في التاريخ. هنا أيضا تجد أقدم آثار لتعدين الذهب بجانب العاصمة. كل هذه شواهد على قدم وجود الإنسان في هذا البلد الذي يشكل العرق القوقازي، ثالث أعراق البشر الكبرى حول العالم، وربما أجملهم.
اقرأ أيضا: من مصر، محمد حميدة يكتب : تذكرة ذهاب فقط!
نساء جميلات ومرهفات المشاعر يقدسن بيوتهن. رجال أشداء عزيزو النفس يغارون عليهن. لا تباين بين أخلاق غنيهم عن فقيرهم. قسوة الطبيعة، مع تنوعها، طبعت فيهم الشيء الكثير. فيهم من جبال القوقاز الوعرة وفيهم من سهولها وأنهارها الجارية وعبيرها الفاتن. مزاج متقلب كفصول السنة، لكنك سرعان ما تعتاده ويعتاد عليك…
إلى جانب هذا التنوع الطبيعي، تنوع من نوع آخر أحبه كثيراٌ: كاثوليكي أرثودوكسي، سني شيعي، يهودي زرادشتي، كل هذا المزيج يعيش هنا في غاية تعايش وسلام…
لكن، وإلى جانب هذا التركيب المتجانس، ثمة صراع جديد. جدل صحي ومستتر بين جيلين: جيل شباب انفتح مؤخراً على الإنجليزية ووسائل التكنولوجيا، يؤمن بقيم الحداثة والتحرر؛ وجيل الآباء… جيل الاتحاد السوفياتي السابق، بتحفظاته وهواجسه.
أشعر وكأنني أعيش تماماً فترة اليمن الجنوبي بعد انهيار السوفييت، وفترة التشكّل التي مرت بها… صراع الأجيال الذي أخمن أنه حدث كذلك. حتى طباع الناس الطيبة التي يبكيها أهلنا، أراها في أمانة الناس هنا. ذكريات شوارع عدن الإستعمارية، أراها في موديلات السيارات وحافلات النقل العام والخبز الكبير رخيص الثمن! وكأني أعيش في إحدى صور الأبيض والأسود، لكن بالألوان….
اقرأ أيضا: فاروق سلوم ـ أوهام الهجرة والاندماج. بداوة عربية في أرض المهجر