من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: أمريكا… لا تستطيع أن تتنفس!
لم يكن “جورج فلويد” من منيابوليس، بولاية مينيسوتا، الأسود الوحيد الذي قتل خنقا من قبل البوليس الأمريكي وهو يتوسل إليهم مرددا عدة مرات: – لا أستطيع أن أتنفس! فقد رددها …
لم يكن “جورج فلويد” من منيابوليس، بولاية مينيسوتا، الأسود الوحيد الذي قتل خنقا من قبل البوليس الأمريكي وهو يتوسل إليهم مرددا عدة مرات:
– لا أستطيع أن أتنفس!
فقد رددها “إريك غارنر”، من “ستاتن أيلاند” بنيويورك قبله بخمس سنوات، حين حاصره أربعة أفراد من الشرطة وهو يبيع السجائر بالتقسيط، وأسقطوه أرضا، في حين قام أحدهم بتطويق عنقه والضغط عليه حتى الاختناق… وتوسل إليهم “غارنر” مرددا إحدى عشرة مرة:
– لا أستطيع أن أتنفس!
لكن دون جدوى… وبعد أن غاب عن الوعي، ونقل إلى المستشفى، لفظ أنفاسه هناك بعد ساعة من وصوله.
لم يكن فيروس “كورونا” عنصريا… حين اختار أكبر عدد من ضحاياه في أمريكا من السود، لقد عرى على واقع مرير، وورم مستفحل، يكبر بشدة وينتشر بسرعة، ويضغط بقوة على أنفاس أمريكا اللاهثة، ولا غرابة إن تفاقم الأمر وخرج عن السيطرة، ولم تُجْد كل الإسعافات، وخرجت أمريكا لتقول للعالم وهي مختنقة:
– لا أستطيع أن أتنفس!
… وقبل “إريك غارنر” بست سنوات، رأيت مقتل شاب أسود، وحضرت الواقعة كاملة:
كان الوقت ظهيرة حين خرجت من محطة “تايمس كوير” في منهاتن، ما إن انعطفت جهة اليمين إلى المحج السابع، حتى رأيت العديد من الناس يفرون في كل اتجاه، في حين كان عدد من أفراد الشرطة يطاردون شابا أسودا يحمل سكينا كبيرا في يده.
تحصن الشاب خلف باب زجاجي لإحدى المحلات، وفيما يبدو أنه كان تفاوضا بين أفراد الشرطة والشاب لم يدم سوى لحظات، حتى انطلق دوي رصاصات عديدة، بلغ عددها تسعة، اخترقت جثة الشاب وأردته صريعا ممددا على الأرض، في حين شرع رجال الشرطة في تطويق المكان.
إذا كنت قد عشت في أمريكا مدة من الزمن، فلا شك أنك قد رأيت نفس هذا المشهد أو قريبا منه… ففي أمريكا يُقتل كل سنة، ما يزيد عن مائة أسود برصاص أفراد الشرطة.
فكونك من السود في أمريكا… يعني أنك متهم بالوراثة وصك اتهامك جاهز، وتوقيع إعدامك قد صدر… أنت فقط تنتظر يوم نحسك ليجهز عليك شرطي أبيض في الغالب.
وقد يقتنصك كذلك… متعصب أبيض وأنت تمارس الرياضة في الحديقة، بدعوى أنه تنطبق عليك تفاصيل ملامح سارق تم التبليغ عن محاولته اقتحام منازل في الحي.
هذا ما حدث بالضبط قبل أسابيع قليلة، حين قُتل “أحمود أربري”، بحي “برونزويك “بولاية جورجيا، وقد ماطلت سلطات الولاية في القبض على الرجلين الأبيضين… حتى تدخل مكتب التحقيقات الفيدرالي.
اقرأ أيضا: هل المغاربة عنصريون؟
قد يخترق جسمك ما يزيد عن أربعين رصاصة… لأنك لم تمتثل وتتوقف لرجال الشرطة… فبينما أنت تفر منهم هاربا، تصدر منك حركة يفسرها أفراد الشرطة الأربعة الذين يلاحقونك، على أنها محاولة لإخراج شيء من جيبك، وهو ما يتم تقديره على أنه مسدس بالتأكيد، فلا يتورعون عن رميك بوابل من الرصاص يخترق نصفك العلوي كاملا…
وحين تفتش الشرطة في جيوب القتيل، لا يجدون شيئا مشبوها، بل الأكثر من ذلك، وهذا ما دلت عليه التحريات في قضية “أمادو ديالو”، الذي اخترقته الرصاصات الأربعون في هذا الحادث، الذي وقع منذ عشرين سنة، أن الأمر يتعلق بخطأ من قبل الشرطة، حين اشتبهوا فيه خاطئين على أنه مطلوب للعدالة في قضية اغتصاب.
فأنهوا بكل بشاعة حياة شاب إفريقي، قدم من غينيا للالتحاق بأسرته، وكان يتابع دراسته في علوم الكمبيوتر…
وأنت تتعلم كمهاجر جديد كيف تعيش في نيويورك، ينصحك الجميع بالابتعاد عن الأحياء التي يسكنها السود… يجب أن تظل بعيدا عن تجمعاتهم “projects” في بروكلين، وبرونكس، وكوينز، ففيها تنتشر الجريمة والمخدرات والاغتصاب والقتل والدعارة وكل الموبقات لممكنة…
الحادثة الأليمة التي وقعت، وذهب ضحيتها “جورج فلويد”، لا يريد قلبي أن يصدق أنها يمكن أن تكون الأخيرة، فهناك ثقافة بكاملها، ووعي تشكل واستقر في بنيات المجتمع، ويبدو أن كل هذه السنوات التي تفرقنا عن حركات التحرر المدني، وانتهاء الفصل العنصري، لم تستطع أن تتجاوز هذه العقدة التاريخية
والمنحرفون السود هناك، مستعدون لقتلك من أجل عشر دولارات فقط…
هكذا يتشكل الوعي بالرجل الأسود في أمريكا كمصدر للشر والموت، وتتشكل صورته على أنه مصدر للمشاكل والخطر.
حفظت الدرس مبكرا، وتم تلقيني إياه في أيام وصولي الأولى إلى أمريكا، واستقر في وعيي… وبقيت فترة، حبيسا لهذه السردية الكريهة.
… ذات يوم، وأنا عائد من العمل متأخرا بالليل، رأيت شابا أسودا ضخما، قادما قبالتي في الرصيف الطويل، الفارغ إلا منا نحن الاثنين، في ليلة ظلماء ممطرة…
انتفض قلبي واضطربت، وهممت بالعبور إلى الرصيف المقابل، محترزا ومستعدا لإطلاق ساقي للريح، تنبه الأسود الضخم لارتباكي، وانفرجت أساريره، وأصدر ضحكة أضاءت ما بداخله من طيبة!
-هل تنحيت عن الرصيف خوفا مني لأني ضخم وأسود؟
تلعثمت في الإجابة، وأومأت برأسي نافيا، ورسمت ضحكة صفراء لا معنى لها، فقط لأخفي ما شعرت به من حرج، وأداري خوفي وهلعي.
اقرأ أيضا: أحمد الخمسي يكتب ـ حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
الحادثة الأليمة التي وقعت، وذهب ضحيتها “جورج فلويد”، لا يريد قلبي أن يصدق أنها يمكن أن تكون الأخيرة، فهناك ثقافة بكاملها، ووعي تشكل واستقر في بنيات المجتمع، ويبدو أن كل هذه السنوات التي تفرقنا عن حركات التحرر المدني، وانتهاء الفصل العنصري، لم تستطع أن تتجاوز هذه العقدة التاريخية، ولم تستطع أن تجعل من كتلة السود، كتلة منسجمة، مستفيدة من كل الإمكانيات التي تطرحها أمريكا للتطور والترقي، فهناك شعور عام بالغبن والحرمان وعدم المساواة والإقصاء الممنهج… وكل هذه الشعارات الكبيرة التي تداعبك وأنت تفكر في أمريكا، يمكن أن تتركها عند أول مدخل للأحياء السكنية المخصصة للسود.
لم يكن فيروس “كورونا” عنصريا حين اختار أكبر عدد من ضحاياه في أمريكا من السود، لقد عرى على واقع مرير، وورم مستفحل، يكبر بشدة وينتشر بسرعة، ويضغط بقوة على أنفاس أمريكا اللاهثة، ولا غرابة إن تفاقم الأمر وخرج عن السيطرة، ولم تُجْد كل الإسعافات، وخرجت أمريكا لتقول للعالم وهي مختنقة:
-لا أستطيع أن أتنفس!
الطيور تهاجر من أوكارها إلى فضاء هذا الكون الفسيح.
لكن مسيرها الرجوع إلى أوكارها حيث تستقر وتجد السكينة والاطمئنان .
وهذه طبيعة الله في هذا الكون.