علي اليوسفي العلوي: تنزيل المبادئ اللائكية على أرض الواقع: النموذج الفرنسي (فيديو)
فيكتور هوجو، الكاثوليكي المعارض للإكليروس، كان أول من أعلن عن الفصل بين الدولة والكنيسة، حين فضح، يوم 20 يناير 1850، القانون المعروف بقانون فالو La loi Falloux، الذي ينظم مراقبة رجال الدين للمدارس. في لحظة معينة، وبعدما ميز فكتور هوجو بين الدين كمسار روحي بسيط، والإكليروس كرغبة دينية في الهيمنة السياسية، أعلن عن هذه الصيغة الرائعة: “بكلمة واحدة، أريد أن تكون الدولة لدى الدولة، والكنيسة لدى الكنيسة”. هكذا يكون فكتور هوجو قد استبق مفهوم الفصل بين الدولة والكنيسة بخمس وخمسين سنة.
الفصل بين هاتين المؤسستين لا يعني معاداة إحداهما للأخرى، وإنما هو فقط الترجمة القانونية للمبدأ الفلسفي لاستقلال السياسي عن الديني. بمقتضى هذا الفصل، يتعين على الكنيسة أن تتوقف عن وضع ضوابط للمسائل العمومية التي يجب أن تضبط بالقانون المشترك بين الجميع وليس بقناعة دينية خاصة بالبعض.
إذا كانت الفلسفة تعيد الإمساك بزمام التاريخ، فإن ترجمة المبادئ الفلسفية إلى قوانين هي ما يسمح بانطلاق التاريخ من جديد على أسس أخرى. وإذا كانت بعض البلدان الغربية تلتقي حول تنزيلها للنظرية اللائكية على أرض الواقع، فإن النموذج الفرنسي يظل متميزا، ليس فقط لأن فرنسا كانت المعقل الرئيس لمنظري اللائكية، وإنما أيضا نظرا للمخاض السياسي والاجتماعي الذي أدى إلى الثورة الفرنسية وإلى ارتدادات تلك الثورة التي استمرت لما يزيد عن قرن من الزمن. نظرا لهذه الخصوصية، ولما لايزال النموذج اللائكي الفرنسي يثيره من جدل، سنخصه بمقال مستقل، على أن نتطرق للنماذج الأخرى في مقال لاحق.
عرف العقدان الأخيران من القرن التاسع عشر إقرار مجموعة من القوانين الهادفة إلى رفع يد الكنيسة على مجموعة من مجالات الحياة المدنية، وذلك تمهيدا لفصل الكنيسة عن الدولة. من أهم تلك القوانين: قانون نزع الصفة الدينية عن المقابر، وتأكيد الحق في الدفن المدني سنة 1881، وقانون حذف الصلوات (الأدعية) التي كانت تفتتح بها أشغال البرلمان سنة 1884، وقانونا تقنين الطلاق (أي السماح به قانونيا)، وقانون إضفاء الطابع اللائكي على كل الشغيلة التي لها نصيب من المسؤولية بصفة أو بأخرى في السلطة العمومية، سنتي 1887 و1889.
لكن أهم ما سيأتي به تنزيل اللائكية على أرض الواقع بفرنسا، يتمثل في محطتين فارقتين في تاريخها: تتعلق الأولى بالفصل بين المدرسة والكنيسة، والثانية بالفصل بين الدولة والكنيسة. وإذا كانت هيمنة الكنيسة على دواليب الدولة واضحة تاريخيا كما بيناه في المقالين السابقين، فإن خطورة سطوة الكنيسة على المدرسة تحتاج إلى وقفة خاصة.
تحكمت الكنيسة في المدرسة لما يناهز خمسة عشر قرنا، حيث كانت تحدد البرامج الدراسية وتعين المدرسين، وبذلك كانت لها السلطة المطلقة في تكوين former، بل في تشكيل formater التلاميذ حسب هواها، حيث تخلط بين التكوين والتربية الدينية فتمرر مبادئها وقيمها. لذلك، كانت المدارس تمثل بالنسبة إليها فضاءات لنشر الدين، وللتعبئة والتشكيل الروحي. وبما أن الثورة الفرنسية استمدت روحها مما اعتمل من أفكار لدى فلاسفة ومفكري عصر الأنوار، فإن كوندورسي Condorcet (1743-1794) – الذي يعتبر بحق مفكر التعليم العمومي في ظل الثورة الفرنسية – كان يقول بأن الثورة لم تنته إذا ما اكتفينا بمنح الشعب الحق في التصويت والسيادة، وإذا ما ظل الشعب بفعل جهله تحت رحمة الديماغوجيين. لذلك، ولكي يُعطى الحقُّ في التصويت بعدا ملموسا أكثر، يضيف، سنبتكر مفهوم التعليم العمومي، الذي ستسند مسؤوليته إلى الدولة (بدل الكنيسة).
إن وظيفة التعليم، يقول كوندورسي، ليست التعبئة والتشكيل الروحي، وإنما تمكين وعي الطفل، الذي سيصبح في ما بعد تلميذا، من تحصيل أفضل ما في التاريخ البشري: الثقافة. والثقافة هي المسار الذي من خلاله نغير الطبيعة لنرفعها إلى أحسن ما فيها. إن المدرسة، من منظور كوندورسي، هي مشروع إنساني لنقل ما تحصل من كل التاريخ البشري، من جهة، وللعمل على تمكين الإنسان/المواطن/ العامل (وهي الأبعاد الثلاثية للكائن البشري) من التمتع بالاستقلالية في الحكم انطلاقا من تمتعه بالمؤشرات repères الأساس للمعرفة البشرية، من جهة ثانية.
بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون المدرسة خاضعة لأية خصوصية سواء أكانت تلك الخصوصية تقليدية أو دينية. المدرسة، يقول كوندورسي، هي خميرة للحس النقدي وللمواطنة المستنيرة. المدرسة فضاء للحرية، فلا هي فضاء للدين، ولا هي فضاء لمحاربة الدين. إن “المعرفة عامة، والديانة خاصة”. لذلك، يتعين على المدرسة أن تحصر تدخلها في ما هو عمومي، سواء تعلق الأمر بالمعارف أو بالمبادئ التربوية المدنية، وليس في ما هو خاص بجماعة من الأفراد دون غيرها.
انطلاقا من هذه المبادئ التي نظر لها وخطها كوندورسي، سيضع جول فيري Jules Ferry (1832-1893)، قانون سنة 1882، الذي يؤطر التعليم الابتدائي لجميع الأطفال من السنة الثانية إلى السنة الثالثة عشرة من أعمارهم، وذلك بناء على ثلاثة مرتكزات: المجانية، والإلزامية، واللائكية.
لقد كان الأطفال في النظام القديم لا يحصلون على التربية إلا إذا كانوا ينتمون إلى أسرة غنية يمكنها أن توفر لهم مربيا، أو إذا كانت أسرتهم نفسها مثقفة فتوفر لهم التعليم تلقائيا من خلال التفاعل معها. لذلك، فإن إسناد مسؤولية التعليم إلى الدولة سيجعله مجانيا، فيرفع الحواجز المادية في وجه الولوج إليه. أما الإلزامية، فتعني أنه لا حق لأية أسرة أن تمتنع عن بعث ابنها لتحصيل المعارف التي ستشكل استقلاليته في الحكم على الأشياء، وأنه ليس من حق الآباء التحكم في أبنائهم، لأن الأبناء ليسوا ملكا لهم. وبما أن بعض الأطفال كانوا يشكلون قوة عمل بالنسبة إلى بعض الأوساط المتواضعة، حيث يساهمون في أشغال الحقول، ومادام هؤلاء الأطفال في هذه السن في حاجة إلى التعلم في نفس الوقت، فقد كان لا بد من تخصيص منح دراسية للأوساط الأقل حظوة، وفي هذا الإطار ولدت المنح التعليمية الأولى.
أما لائكية التعليم، فلا تعني أنه ضد الدين، أو ضد الإلحاد، وإنما تعني أنه لا ديني Areligieux. يعني ذلك، ببساطة، أن التعليم لا يتدخل في المنظور الروحي، ولن يكون له أن يتخذ موقفا مع أو ضد الدين، وهو ما يعني مبدأ الحياد. هذا المبدأ هو الذي سنجده في تقرير الأدبيات اللائكية للتعليم، حيث سيدعو جول فيري إلى عدم التطرق إلى مسألة قيمة الاختيارات الروحية؛ إذ ليس من حق الجمهورية أن تُكيّف الأطفال مع الدين أو ضد الدين، وإنما يجب أن تترك ذلك لعناية الوالدين، فإن شاؤوا منحوا أبناءهم تربية دينية خارج المدرسة، وإن لم يشاؤوا فذلك يخصهم.
أما المحطة الكبرى الثانية من تنزيل اللائكية في فرنسا، فقد تمثلت في قانون 9 دجنبر 1905 الذي يفصل بين الدولة والكنيسة الذي أعده كل من آريستيد بريان Aristide Briand (1862-1932) وجون جوريس Jean Jaurès (1859-1914)، وهو القانون الذي سيُصادق عليه يوم 09 دجنبر 1905، ويدخل حيز التنفيذ يوم الفاتح من يناير 1906.
ينبغي التذكير هنا أن فيكتور هوجو Victor Hugo (1802-1885)، وهو كاثوليكي معارض جدا للإكليروس، كان أول من أعلن عن الفصل بين الدولة والكنيسة في صيغة منذرة، حين فضح، يوم 20 يناير 1850، القانون المعروف بقانون فالو La loi Falloux، الذي ينظم مراقبة رجال الدين للمدارس. في لحظة معينة، وبعدما ميز فكتور هوجو بين الدين كمسار روحي بسيط، والإكليروس كرغبة دينية في الهيمنة السياسية، أعلن عن هذه الصيغة الرائعة: “بكلمة واحدة، أريد أن تكون الدولة لدى الدولة، والكنيسة لدى الكنيسة”. هكذا يكون فكتور هوجو قد استبق مفهوم الفصل بين الدولة والكنيسة بخمس وخمسين سنة. إن الفصل بين هاتين المؤسستين لا يعني معاداة إحداهما للأخرى، وإنما هو فقط الترجمة القانونية للمبدأ الفلسفي لاستقلال السياسي عن الديني. بمقتضى هذا الفصل، يتعين على الكنيسة أن تتوقف عن وضع ضوابط للمسائل العمومية التي يجب أن تضبط بالقانون المشترك بين الجميع وليس بقناعة دينية خاصة بالبعض.
إن الدولة، بتحررها من الإله، لا تودع الإله، وإنما تجعل من الممكن أن يكون الله الاختيار الروحي للمؤمنين. في الوقت نفسه، فإن الدولة، بما هي جمهورية، لا يمكنها أن تتضامن مع مجموعة من المواطنين، أي المؤمنين، على حساب غير المؤمنين؛ وإنما يجب عليها أن تستعمل ما هو مشترك (الإمكانيات العمومية) لفائدة الجميع فتمارس بذلك حيادها. هكذا فقط يمكنها أن تعكس المعنى الحقيقي لكلمة ريس بوبليكا res publica التي تعني الشأن العمومي، أي الشأن المشترك بين الجميع، وليس الخاص بالبعض.
نظرا لطول الموضوع، سنكتفي هنا بعرض البندين الأساس اللذين يحددان طبيعة المبادئ الأساس للائكية:
البند الأول من قانون 1905
تضمن الجمهورية حرية المعتقد، وكذا حرية ممارسة العبادات (ويفهم من هذا أن ليس هناك ما يخشاه المؤمنون من اللائكية). تضمن الدولة ألا يُشوَّش على العبادة من قبل أشخاص قد يقتحمون الكنيسة وقت الصلاة (La Messe) على سبيل المثال. وهو الأمر الذي يعني اعتبار أي تشويش من هذا القبيل – إذا حصل – مسا بحرية ممارسة العبادة. لكن ضمان حرية ممارسة العبادة لا يعني بحال من الأحوال تمويل مقرات العبادة من كنائس أو غيرها؛ ذلك أن الأموال العمومية، حسب المبدأ الثالث من مبادئ اللائكية، يجب أن تُوجه إلى ما هو مشترك بين جميع المواطنين.
البند الثاني من قانون 1905
إن الجمهورية لا تعترف بأية عبادة، ولا تدعم أيا منها ماديا، ولا تُشَغّل أي قيّم عليها. ومن المهم التأكيد على هذا لأن نابليون كان قد أعاد العمل سنة 1801 بنظام العبادة المعترف بها، وموَّل مقرات العبادة من الأموال العمومية – بعدما كانت الثورة الفرنسية قد حذفت ميزانية العبادات-، وأدى رواتب لوزراء العبادات الذين حظوا تقريبا بوضعية موظف الدولة، كما أعاد العمل في نفس السنة بالمعاهدة بين الكنيسة والدولة Le concordat. وكل هذا يعتبره أنصار اللائكية ومُنظّروها، تراجعا عن منجزات الثورة وتوظيفا سياسيا للدين يُخرج الدولة من حيادها.
تكمن خطورة معاهدة نابليون المعروفة بالـ(كونكوردا) في أنها تضرب في مقتل المبدأ الثنائي المتعلق بالحرية وبالمساواة. يتضح هذا في الاستثناء الذي تمثله أقاليم الألزاس موزيل الثلاثة التي كانت تحت سيادة ألمانيا سنة 1905، والتي لازال يُعمل فيها بالمعاهدة إلى يومنا هذا؛ حيث لازالت فرنسا تؤدي رواتب وزراء العبادة، وتدعم العبادات ماديا، ولا زال يُعمل فيها بالتربية الدينية Catéchèse في المؤسسات التعليمية العمومية، حيث لم تستطع أية حكومة فرنسية إلى حد اليوم تعميم قانون 1905 ليشمل تلك الأقاليم.
ينبغي التذكير أن أول مرسوم يفصل بين الدولة والكنيسة يرجع إلى يوم 21 فبراير 1795، وهو المرسوم الذي اقترحه بواسي دانغلاس Boissy d’Anglas (1756-1826)، والذي كانت صيغته كالتالي: “لا يمكن أن يُجبر أحد على المساهمة في نفقات عبادة ما، ولا توظف الجمهورية أي رجل دين”. هذا يعني أنه لا يمكن تحويل أموال الضرائب لتمويل عبادة ما. لقد كان بواسي دانغلاس يرى أن حرية المعتقد تفترض أنه لا يُجبر أحد – ضد رغبته – على تمويل عبادة ما، لأن ذلك يقود إلى المس بالمساواة بين المواطنين، حيث يُمنح المؤمنون أكثر مما يُمنحه الملحدون. وهو ما يعني أن الدين لا يمكن أن يتجاوز الفضاء الخاص، وأن القيمين عليه لا يمكن أن يتقاضوا أجرا البتة من الأموال العمومية. أما الكنائس ومقرات العبادة، فتظل ملكا للدولة تضعها رهن إشارة المؤمنين والقيمين عليها، لكنها لا تمولها ولا تتقاضى شيئا مما يتبرع به المؤمنون لفائدتها، أو مما تحصله من تنظيم أنشطة ثقافية أو فنية أو دينية بها. أما إنشاء بنايات جديدة لديانات أخرى (كالإسلام) فينبغي أن ينهض به معتنقو هذه الديانة المقيمون بفرنسا، ما دامت الدولة توفر لهم الخدمات العمومية (مدرسة، تطبيب، أمن، إلخ.) مثلهم في ذلك مثل غيرهم من المواطنين الفرنسيين.
لكن قانون 1905 عرف تعديلات مست أحيانا بجوهره، مثل التعديل الذي أدخله فيليب بيتان Philippe Pétain (1856-1951) سنة 1942، حيث عدل البند 19 من قانون 1905، لإدخال إمكانية تمويل مقرات عبادة أو ترميمها من الأموال العمومية، وإن لم تكن تلك المقرات من المآثر التاريخية أو ملكا للدولة. ومن ذلك أيضا أن التربية الدينية لا تزال قائمة في المقررات الدراسية في المؤسسات العمومية، حيث يتعين على الذين لا يرغبون فيها من الآباء طلب إعفاء أبنائهم منها وهو ما يمس بجوهر المبدأ الجمهوري حيث، من جهة، تُجبر الأسرة على الإعلان أمام الملأ عن اختيارها الروحي، بينما الحرية تعني أيضا حرية التكتم، ومن جهة أخرى، فإن ذلك يوحي بأن التدين هو القاعدة وأن عدم التدين هو الاستثناء. يضاف إلى ذلك قانون دوبريLa loi Debré لسنة 1959 الذي ينظم تمويل الدولة للمدارس الخصوصية الدينية بما يعادل 90% من المبلغ الإجمالي في فرنسا، علما أن هذه المدارس الخصوصية كاثوليكية، مما يعني مسا بجوهر اللائكية ما دام يحرم المدرسة العمومية من أموال قد تسمح لها بتحقيق الامتياز.
من بين المراجع المعتمدة:
1. Henri-Pena-Ruiz, Qu’est-ce que la laïcité ? Ed. Gallimard 2003.
2. Jean-Paul Scot, « l’Etat chez lui, l’Eglise chez elle », comprendre la loi 1905, Ed. POINTS, mai 2005.
3. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني/المجلد الثاني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى يناير2015
شكرا جزيلا استاذي الكريم أجدت واصبت فلو لم يتم الفصل بين السلطة والدين لما عاشت فرنسا معاناة القرون الأولى من نهب وعنصرية وانحلال للقيم تحت دريعة الدين .
موضوع غني و عميق حقيقة،،،،
جدير بالإهتمام و المطالعة.
شكرا لكاتبه….
…….
عطفا على ما سبق و بإختصار :
(اللائكية) هي الفصل القطعي بين سلطة التعليم ، و سلطة التعاليم …..!!
ح.ق
ماجستر دراسات قضائية