من مصر، منى حلمي تكتب: حضارة الحجر ليست طوق النجاة - Marayana - مرايانا
×
×

من مصر، منى حلمي تكتب: حضارة الحجر ليست طوق النجاة

إننا نهتم بالآثار التي صنعها الإنسان المصري القديم، أكثر من اهتمامنا بالانسان المصري في الحاضر.

بين كل فترة وأخرى، أقرأ مقالات تقول إن “مستقبل مصر فى السياحة“. لست بالطبع أدعو إلى إهمال السياحة بمختلف أشكالها، فإذا كانت مصر تملك نسبة كبيرة من آثار العالم، ولها من الشواطئ الفيروزية الساحرة المتفردة عالميا، وإذا كانت أسعار السياحة فى مصر مازالت رخيصة نسبيا، مقارنة بدول أخرى، وازدهارها يدر عائدا من أساسيات عوائد الدخل القومي، وقد بلغ عام 2021 أكثر من 13 مليار دولارا، فكيف يمكن لأي عاقل، محب للوطن، أن يكون ضد السياحة أو ضد الاهتمام بها؟

لكنني أرى أن تقدم الدول والحضارات، ونهضة الشعوب قديما وحديثا، يعتمد أساسا على “بناء الانسان” من الداخل.

هذا البناء الداخلي يصنعه البناء الخارجي، وأقصد به جودة التعليم وارتقاء الثقافة والفنون والآداب، والعلاج الصحي الكريم، والسكن الملائم، وفرص العمل المتوافقة مع التعليم والكفاءات الشخصية.

حتى الدول التي تهتم بزيادة عائداتها من السياحة، تفعل ذلك حتى تنفق المزيد على بناء المواطنة والمواطن، وتوفر البناء الداخلي الصلب. ما دون ذلك، لن نستفيد من السياحة أو أي شئ آخر.

وبناء الانسان يعني أن يكون شريكا أساسيا في مقومات النهضة الحقيقية الدائمة الراسخة لأي دولة. وأقصد الإنتاج فى كافة المجالات: الزراعة والصناعة وتشجيع كافة الحرف اليدوية النافعة، والتعمير والتكنولوجيا.

الإنتاج السياحي مبني على شيء جامد ساكن موروث من الأقدمين المبدعين. لكن، ماذا عن إنتاجنا الحي المتحرك من صنعنا نحن في الحاضر؟

نتحدث دائما عن بناء الإنسان المصري، باعتباره ضرورة لإحداث نقلة نوعية في العقل والمفاهيم والسلوك، وتغييرا حقيقيا يأخذنا إلى دولة مدنية حديثة ناهضة.

إن حال الإنسان المصري والإنسانة المصرية، رغم قيام ثورتين، أوضحا المعدن الحر الثمين للشعب المصري. لا يسر أحدا، ولا يعكس طموحاتنا، ولا يدل على أن مؤسسات الدولة تأخذ قضية “بناء الإنسان”، كقضية محورية وأساسية. بل إنها أكثر من ذلك! قضية “بناء الإنسان المصري والإنسانة المصرية” قضية حياة أو موت. قضية وجود أو لا وجود. قضية بقاء مشرف، أصيل، على الخريطة الإنسانية. بقاء يُلهم الآخرين ويعطيهم نموذجا واقعيا غير مستحيل، أن القيامة ممكنة بعد الوقوع.. وأن النهضة ممكنة بعد الركود … وأن الورود والسنابل والأزهار تطلع أحيانا من أرض وعرة.

من هنا أناقش قضية في صلب بناء الإنسان المصري، وهى أننا نهتم بالآثار التي صنعها الإنسان المصري القديم، أكثر من اهتمامنا بالانسان المصري في الحاضر.

طوال الوقت، تصدمني المقالات التي ترسخ أن مستقبل مصر في السياحة، وأن السياحة هي طوق النجاة. كلام غير واقعي ولا أوافق عليه. أصحاب هذه الفكرة لابد أن يقولوا لنا، إذا كانت السياحة هي المستقبل، فماذا سنفعل فى عدد السكان الرهيب (طفل كل عشرين ثانية)؟ هل يخدمون السياح الأجانب، وينسوا التعليم بمجالاته المختلفة؟

إن اهتمامنا بالآثار كثمرة من ثمار حضارتنا المصرية القديمة، يفوق اهتمامنا بالإنسان صانع الحضارة في الأساس.

غالبية الناس لا يرون الحضارة إلا في تلك الآثار العابرة لحدود الزمان. هم بذلك “يسجنون” الحضارة فى قالب من “الحجر” أحادس الرؤية، جامد.

أنا أعتقد أن الآثار، بكل تفردها وعظمتها، هي صدى الصوت، وليست الصوت نفسه. أو هي مجرد الأصبع الذي يشير إلى القمر، لكنها ليست القمر.

أو بمعنى آخر، الآثار هي الجانب “الساكن” من الحضارة. أما الجانب “المتحرك “، فهو عقل وقلب الإنسان الحي “هنا والآن”، القادر على إحداث التغيير وعلى الإبداع. إن حضارتنا ليست “تركة” جامدة من التماثيل والمومياوات والتوابيت والمعابد، والأهرامات.

لماذا ننحاز إلى حضارة “الحجر”، لا حضارة “البشر”.  أو لنقل أن هناك اتجاها “سلفيا” في الفكر الحضاري، كما هو موجود في الفكر الديني.

ننشغل بحماية أنف أبي الهول، أكثر من حماية الإنسان الحي الآن من الفقر والمرض، والجهل. هل من العدل، إنفاق مبالغ طائلة في البحث عن قطعة أثرية مغمورة؟ ولا ننفق شيئا يُذكر في البحث عن المواهب المغمورة؟

ننفق على “ترميم” الآثار، ولا ننفق على “ترميم” البيوت، التي تتصدع وتقع على سكانها الآمنين. نهب سريعا لو سُرقت عين “توت عنخ أمون”؛ بينما لا نفعل شيئا حين تُسرق كرامة الإنسان.

يقف الناس، يتأملون فى انبهار أحد التماثيل الموجودة منذ خمسة آلاف سنة، ولا ينبهرون بكفاح إنسان مصري، يناطح الأقدار ويتحدى أصعب المعوقات لمجرد أن يحافظ  على بقائه. لا ييأس من الأزمات، لا تهزمه التحديات.

أنا أعترض على مقولة “السياحة هي مستقبل مصر”. يرددها كثيرون باعتبار أن مصر تمتلك وحدها ثلث آثار العالم.

عفوا أيتها التماثيل والمومياوات والتوابيت والمحنطات. أنتِ لست مستقبل الوطن. يا كل آثارنا الجميلة والعظيمة، إن مستقبل مصر في تنمية حقيقية وثورة ثقافية، في “الإنتاج”.. في الزراعة وفي الصناعة وفي تخضير الصحراء وفي الطاقة المتجددة وفي الفن الراقي وفي تثوير الفكر الديني وفي تحرير النساء من المعتقلات الذكورية.

إذا كان بناء الأهرامات عجيبة من عجائب الدنيا،ولغزا لم يُفسر حتى الآن، فإن “بناء الإنسان المصري” هو العجيبة الجديدة التي يمكن أن يفعلها الشعب المصري، بينما تحاصره عوامل التعرية القاسية وظروف مناخية غير قابلة للتنبؤ.

العقل المصري… الوجدان المصري… الإرادة المصرية… الإبداع المصري… هذا هو طريق مصر الذي ينتظر مرور أول قطار كهربائي جديد الصنع للقفز إليه.

 

الشِعر خاتمتي

حياتي

لا أستطيع الهروب من نفسي

ولا يمكنني أن أغير حياتي

لن أقدم على الغرق مثل فرجينيا

ولن أبلع حبوبا مخدرة مثل داليدا

حياتي التي أدمرها وتدمرني

هي ملامحي ومصيري وقدري

أحبها لأنها أصيلة وفريدة

رغم كيمياء مخي

المسكونة بألف عفريت

رغم خيالات مجنونة

ومذاق السأم المقيت

هي حياتي

نصف ورثته

ونصف آخر صنعته

بأعصابي ودمي وتأملاتي

وأحلامي العنيدة

أنا كما أنا

وهذه هي حياتي

ابنتي الوحيدة

أحيانا ألعنها

أحيانا أتنصل منها

وأنكر  عليها أمومتي

لكن قلب الأمهات

يرق، يغفر، يسامح

وفي النهاية

هي التي ستبقى معي

في وحدتي وشيخوختي

 

 

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *