منى نوال حلمي: الموسيقى الحرام - Marayana - مرايانا
×
×

منى نوال حلمي: الموسيقى الحرام

سأل شخص أحد الحكماء، ما هي الموسيقى الحرام؟…
فقال الحكيم: “الموسيقى الحرام هي موسيقى ملاعق الأغنياء وهي ترن في أطباق الطعام وتسمعها آذان الفقراء الجوعى”.

أخشى ألا تأتي سطوري على أكمل وجه أرضاه؛ فأنا أكتبها في يوم من أيام أبريل، شهر مولدي، وهذا يكفي لكي يتعكر مزاجي وأتحول إلى كتلة من الأعصاب المتوترة والمتوجسة.

أبريل في موسم الربيع، وأنا أكره الربيع وكل ما يصاحبه من تفجر الطبيعة وصخب البشر. أنا امرأة خريفية الهوى، شتائية المشاعر.

تجتاحني الأسئلة العدمية والعبثية: لمنْ أكتب؟ ما جدوى الكتابة المتكررة منذ سنوات، وتأليف الكتب؟

ماذا يحدث للعالم، لو مرضت بداء خبيث، أو مت غرقا، أو حرقا، أو قهرا… بطلقة رصاص، أو نصل سكين، أو بنوبة قلبية من حصار السفه والتفاهة والسخف؟ هل تغير الشمس مسارها وتشرق من الغرب، لو انحرفت أو كفرت أو انتحرت؟

العدم يلف جميع الأشياء. لا معنى ولا أهمية لمقالات وقصائد وروايات، تنتزع أناقة الحروف، وتناغم الأبجدية. هل هناك ما يبرر كل هذا التعب والاستنزاف؟ هل هناك ما يستحق أن أوجد وأن أستمر في الوجود، وكل منْ يهمهم أمري دون مصالح، دون أقنعة، دون شروط، قد غادروا إلى المحطة الأخيرة، وافترشوا التراب مسكنا أبديا؟

جاء بخاطري أن جبران خليل جبران ولد في 6 يناير 1883 وتوفي في 10 أبريل 1931، أي أن اليوم ذكرى الرحيل الثانية والتسعين، قد قال أمرا مشابها، حين تساءل: “هل هذه هي الحياة التي كنت أركل بطن أمي من أجلها؟”.

كلما قبضت على روحي تلك التساؤلات الفلسفية العدمية العبثية، أفلت منها قائلة: ما هذه الرفاهية الفكرية؟. ألا يكفي أنني لست من الجائعين والمشردين، أو من الملايين الذين يعيشون ويموتون تحت خط الفقر؟ ألا يكفي أنني من الطبقة المخدومة، لا الطبقة الخادمة؟ … الطبقة المالكة، لا الطبقة المملوكة؟ الطبقة الآمرة، لا الطبقة المأمورة.

منْ يعيش تحت خط الفقر، ليست لديه الطاقة لأسئلة فلسفية. انشغاله الوحيد المتكرر يوميا هو: “كيف أجد طعاما يبقيني حيا؟”. المعدة الخاوية لا تتفلسف ولا تطرح الأسئلة.

لكن الواقع في كل زمان ومكان، يشهد على نساء ورجال، فوق خط الفقر بسنوات ضوئية. بطونهم ممتلئة بالأكل، جيوبهم ممتلئة بالمال، خزائنهم ممتلئة بالملابس الفخمة والمجوهرات. لكن عقولهم خاوية. لا يشغلهم إلا اشباع غرائز الطعام وإطفاء شهوات الجنس والامتلاك. وهؤلاء على الأغلب، هم سبب وجود الفقر والفقراء.

هناك جمعيات ومراكز ومنظمات وبنوك متخصصة في الاستثمار في فقر الناس وترسيخه عملا بالقول: “اعطِني سمكة، ولا تعلمني فن الصيد”؛ وناس يستعرضون عطاء الفتات في المناسبات الدينية والاجتماعية، ليقال عنهم “بتوع ربنا”.

خُصص يوم 17 أكتوبر ليكون اليوم العالمي لإبادة الفقر، لكن دون أي حلول جذرية، لإبادته فعلا. الصين التي تفتخر في كل مناسبة أن لا دين لها، هي البلد الوحيد الذي استطاع انتشال ما يقرب من 800 مليون شخص من الفقر المدقع – تحت خط الفقر – عام 2021، في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.

الميزة الوحيدة للفقيرة، أن لو أحبها رجل ما، سيكون حبا صادقا لشخصها، منزوع الأطماع. وكذلك إذا أحبت امرأة رجلا فقيرا، سيكون حبها لذاته، وليس لماله. إن أكبر قلق في حياة إنسانة أو إنسان من الأثرياء، ليس أن يفقد أمواله، ولكن سؤاله الذي لا يتوقف: “هل الحب والاهتمام والتبجيل الذي يحيط بي، بسبب ثرائي، أم لذاتي؟

إذا أردنا الحقيقة والإنصاف، فأن الفقراء لا يحبهم أحد إلا أمهاتهم. يخوضون يوميا حرب وجود لا ترحمهم إلا بالفتات الفائض من الأغنياء.

إن ضحايا الفقر في العالم أكثر من ضحايا الحروب الكبرى التي خاضتها البشرية.

أي حرب مهما تمادت بشاعتها، لها نهاية، إلا حرب الفقراء.

الفقر عار لا يستحي منه العالم، فأغلب الأنظمة تعتبره شيئا طبيعيا في الكون مثل الأشجار والجبال والبحار، أو شيئا موروثا بسبب الجينات الوراثية مثل لون العينين، وطول القامة والاستعداد الوراثي لبعض الأمراض.

الأديان لا تفعل شيئا إلا أن توصي الفقراء بالصبر والدعاء، فالله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات، وهو ابتلاء إلاهي لاختبار شدة وثبات الايمان.

يتأزم حال الفقراء يوما بعد يوم، لأن الحضارة العالمية السائدة والمهيمنة على مجريات الأمور وصنع القرارت ووضع الأولويات، هي الرأسمالية بقيادة أمريكا، والتي تزيد قبضتها الحديدية على العالم. العالم لم يعد الشرق والغرب والشمال والجنوب. نحن كلنا تروس تديرها الآلة الرأسمالية الضخمة التي لا تشبع ولا تتوقف شهيتها لحصد الربح، على حساب أي شيء.

حينما نادى الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس (1842- 1910) إلى تبني الفلسفة العملية، أو “البراجماتية”، لم يتصور ما قد يلحق بأمريكا. لقد فهم المجتمع الأمريكي البراجماتيةَ على أنها اللهاث وراء الربح الشره، النجاح المادي واحتياجات السوق وجنون الحرب وفرض الحصار على الشعوب المستضعفة. بينما قصد وليم جيمس أن تتقاسم كل الشعوب التعايشَ، القائم على التعاون، على المحبة والعقلانية والروح الجريئة المغامرة؛ أو بلغته التى تختصر فلسفته: “عِش ودع الآخرين يعيشون”.

ما يثير اندهاشي وغضبي، أن الأغنياء في كل مكان متشابهون؛ فهم لا يستحون من استعراض غناهم والزهو به.

ويزداد اندهاشي وغضبي، عندما أسمع المشايخ وخطباء المساجد ينصحون الشباب المسلم المحروم من الحد الأدنى للحياة الكريمة، بالاستغفار عن ذنوبهم والتوبة عن خطاياهم والزهد في متاع الدنيا الفانية الغرورة.

أي “ذنوب” يقترفها شاب عاطل يعيش وسط القمامة والحشرات والأمراض؟ عمَّ “تستغفر” فتاة لا تجد وظيفة وتعيش في حجرة واحدة مع عشرة أفراد؟

ملايينٌ تحت خط الفقر لا يسمعون إلا فتاوى الاستعداد للموت، وهم محرومون أصلا من فرصة للحياة!

يرجع الفضل لأسرتي التي ربتني على بساطة العيش والاكتفاء بأقل القليل، والاستغناء عن أشياء تروج الاعلانات الرأسمالية أنها ضرورية، مع أننا لا نحتاجها. نتيجة ذلك، أصبحت عاجزة عن “الفرح”، وفي ذاكرتي ملايين الفقراء والمتسولين. الفضل الثاني يرجع إلى غاندي (2 أكتوبر 1869 – 30 يناير 1948)، والذي اعتبر الفقر أسوأ أشكال العنف. لم يخطب في ملايين الهنود الفقراء عن العدل، بل فعله. عاش حياة أبسط من البساطة. سأله صحفي بريطاني عن الملابس البائسة شبه العارية التي يلبسها، حتى عندما يقابل الملك وعلية القوم، فردّ غاندي: “لأنني أمثل أمة من الفقراء والعراة”.

في بلادنا، إذا رغب شخص مسلم في الحصول على لقب “فاعل خير” في قريته الفقيرة، التي لا يوجد بها مدرسة أو مستشفى أو مصنع أو وسائل ترفيه، أو عربات لجمع القمامة، أو أي مرفق يحسن حال الفقراء، بينما يوجد بها عشرات المساجد المتلاصقة بمكبرات الصوت، فإنه يبني مسجدا فاخرا للصلاة. وكأن مشكلة فقراء المسلمين في القرية هي نقص الصلاة، أو كأن بناء مصنع أو مستشفى، ليس من أفعال الخير.

وكم قرأت عن أبناء، حينما مات الأب أو الأم، بنوا مسجدا كصدقة جارية، أو ذهب أحدهم للعمرة والحج، بدلا عن الأب الراحل أو الأم الفقيدة. لم أسمع عن شخص يريد لأبيه أو أمه الراحل الذكرى الحسنة، فبني مصنعا أو مركزا طبيا باسمهما.

في ذات السياق، أتذكر مقولة دينية شهيرة كانت ترددها المعلمة في مدرستي، في حصة اللغة العربية، ولا أنساها: “لقمة في بطن جائع خير من ألف جامع”.

بما أن مبدأ الرأسمالية هو أن “رأس المال أهم من الإنسان”، فإن “المال يستر رذيلة الأغنياء، ويغطي فضيلة الفقراء”. ولا أدري ما النبل الأخلاقي إذا كسبنا المال وخسرنا الإنسان؟

المال هو كل شيء، وبدونه لا تكون شيئا. المال يقلب المقاييس ويغير من الأحكام وينتصر على العادات والعُرف والتقاليد والأخلاق. وكما قال أوسكار وايلد (16 اكتوبر 1854 – 30 نوفمبر1900): “إن المجتمعات قد تسامح المجرم، لكنها لا تسامح الفقير”.

وهو القائل أيضا: “كنت في طفولتي أظن أن المال هو كل شيء… وعندما كبرت تأكدت من ذلك”.

كتب أحمد شوقي (16 أكتوبر 1868 – 14 أكتوبر 1932) معبرا أبلغ تعبير عن سطوة المال:

                    المال حلل كل غير محلل

                     حتى زواج الشيب بالأبكار

                     ما زُوِّجت تلك الفتاة إنما

                    بِيع الصبا والُحسن بالدينار

المهتمون بالأخلاق حقا، يجب أن يكون شغلهم الشاغل هو القضاء على الفقر، فالفقر يدفع الناس لانحرافات لا يرغبون فيها، وضد طبيعتهم ومبادئهم، وبعد ذلك نعاقبهم على انحرافهم. هم بشر مثل الأغنياء، ومن حقهم التمتع بالحياة، ولو في حدودها الدنيا الكريمة. “لو كان الفقر رجلا لذبحته وقطعته إربا ودفنته”.

من الكذب والنفاق المستمر، القول بأن “الفقر ليس عيبا”. لكن الأسر ميسورة الحال، لا تقبل بأن يتزوج أولادهم وبناتهم من الفقراء. ماذا نسمى هذا؟

يعبر المناضل العالمي لصالح المظلومين والمقهورين والفقراء، أرنستو تشي جيفارا (14 يونيو 1928 – 9 أكتوبر 1967(اغتيال))، بطريقته الساخرة قائلا: “الذي قال إن الفقر ليس عيبا، كان يريد أن يكملها ويقول بل جريمة. لكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحار”.

سأل شخص أحد الحكماء، ما هي الموسيقى الحرام؟… فقال الحكيم: “الموسيقى الحرام هي موسيقى ملاعق الأغنياء وهي ترن في أطباق الطعام وتسمعها آذان الفقراء الجوعى”.

 

الشِعر خاتمتي

سخرية القدر

 

مات

الرجل الوحيد

الذي كان يمدح

رذائلي وعيوبي وتناقضاتي

وتركني لمنْ يذم

نبل فضائلي ورقي أخلاقي وسمو اشتياقاتي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *