محمد أمنصور: محمد برادة في أعماله الروائية: ذاكرة حية للإبداع المغربي وعنفوان أدبي متجدد - Marayana - مرايانا
×
×

محمد أمنصور: محمد برادة في أعماله الروائية: ذاكرة حية للإبداع المغربي وعنفوان أدبي متجدد

ـ ما الذي يتعلمه الكاتب في ستين عاما من الكتابة؟
يقول برادة: “يتعلم ضرورة أخذ الأشياء بكيفية جدلية. بمعنى أن لا شيء نهائي، حتى ما يتم إثباته على الورق… يتعلم أن الكاتب بحاجة إلى فضول متجدد باستمرار وأن الكتابة مواجهة مستمرة مع الذات، في حين تبقى المشاعر أقوى من العقل. يتعلم أن تعقيد المشاعر لا يمكن استغواره إلا عبر الكتابة التي تفهمنا أن الأشياء والعالم يمكن أن يكونا غير ما هما عليه”. ثم ينهي كلامه بالقول: أجد هذا رائعا!”.
أن يكون محمد برادة بيننا في منتصف عقده الثامن ما يزال يصدح بكل هذا العنفوان. يحرضنا على مزيد من حب الحياة والأدب: هذا ما أجده أنا رائعا!

1 ـ يستحق منا محمد برادة، في تجربته النقدية والروائية والثقافية والجامعية التي تجاوزت ستة عقود من العمل في التدريس والبحث العلمي والنضال الجمعوي والحزبي والكتابة والدفاع عن مشروع حداثة الأدب المغربي، أكثر من وقفة واحتفاء وتكريم لو كنا في بلد آخر غير المغرب. لو كانت مفردات مثل الدولة والجامعة ووزارة الثقافة واتحاد كتاب المغرب تحمل معنى من المعاني.

لحسن الحظ، أن دار الفنك للنشر التي تشرف عليها السيدة ليلى الشوني اتخذت مشكورة مبادرة نشر رواياته الثمانية متجاورة في مجلد واحد، وهو حدث ثقافي يتزامن مع تنظيم الدورة 28 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط. التفاتة رمزية وخطوة عملية جاءت في وقتها المناسب في ظل الألزهايمر الثقافي الذي يشل ذاكرة البلد، لا نملك إلا أن نصفق لها ونعتبرها خير جواب على “آلهة المقاولات والفراغ الروحي الجدد” الذين صاروا يتفننون في إفقار أرواحنا و صناعة نسيان كينونتنا (…).

2 ـ يعود اسم محمد برادة في الذاكرة الثقافية المغربية إلى السنوات المفصلية لجيل ما بين الحماية الفرنسية واستقلال المغرب، حيث كان شباب الخمسينيات من القرن الماضي يبحث عن نموذجه الخاص بين المشرق العربي (القاهرة) وفرنسا (باريس).

في تلك السنوات الانتقالية من تاريخ المغرب، اختار الفتى محمد برادة ذو السابعة عشرة سنة أن تكون وجهته مصر لمعانقة رياح الحداثة الأدبية في تجلياتها المختلفة (الجامعة المصرية ـ طه حسين  ـ العقاد ـ توفيق الحكيم ـ نجيب محفوظ  ـ الأفلام السينمائية ـ الأغاني ـ المسرح  ـ اللهجة المصرية…).

بحصوله على شهادة الإجازة وعودته إلى المغرب، سيلتحق بكوكبة الرواد (السولامي، اليبوري، المنيعي، السرغيني، المجاطي..) الذين اضطلعوا بمهمة إرساء أسس تجديد الأدب العربي ومناهج نقده في الجامعة المغربية، حيث قاموا بتأطير أجيال من الطلاب والكتاب المغاربة الذين سيرسخون بدورهم المفهوم الجديد للأدب المكتوب بالعربية عبر وسائط الصحافة والمجلات و الكتب (…).

ثلاثة عقود من النضال الحزبي والأكاديمي والثقافي والجمعوي ستكرس محمد برادة كاسم بارز في الحقل الثقافي المغربي والعربي من خلال إسهاماته الملتزمة والهادفة عبر مواقع متكاملة (الدرس الجامعي ـ اتحاد كتاب المغرب ـ كتابة القصة القصيرة ـ النقد الروائي ـ المقالة الصحفية بين الأدب والسياسة).

وعندما صدرت أولى رواياته تحت عنوان “لعبة النسيان” عام 1987، سيشكل هذا التاريخ نقطة تحول حاسمة في مسيرته الأدبية بعد أن لقيت الرواية نجاحا كبيرا في الأوساط الأدبية وتم إدراجها ضمن برامج المقررات الدراسية. لقد شكلت “اللعبة” انطلاقة جديدة لعلاقة محمد برادة بالأدب؛ إذ سيتبنى بعدها مفهوما جديدا للأدب يتجاوز التصور الاختزالي الذي كان يرى في الكتابة مجرد “التزام” إيديولوجي” آلي ووسيلة نضالية للتنديد والتعبير عن أفكار اليسار التقدمي.

مع رواية “لعبة النسيان”، سيصير لديه اقتناع مختلف يتمثل في أن الكتابة الروائية يمكنها أن تمد الجسور بين التجارب الحياتية التي تعيشها الذات الكاتبة وأسئلة المجتمع والتاريخ، وهذا ما عبر عنه في حواره مع الصحفية سندس الشرايبي بمجلة Telquel التي أكد لها أنه صار يأخذ الكتابة بجدية ويجعل منها مدخلا لاكتشاف قارة الحميمية: (الذاكرة ـ الجسد ـ الرغبة ـ الحلم ـ اللاشعور…)؟ (…).

4 ـ كتب محمد برادة بعد رواية “لعبة النسيان” سبع روايات أخرى، هي على التوالي (امرأة النسيان ـ الضوء الهارب ـ مثل صيف لن يتكررـ حيوات متجاورة ـ بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات ـ موت مختلف ـ رسائل من امرأة مختفية)، وهي نصوص روائية تخييلية سترسم ملمحا جديدا في المشهد الروائي المغربي يقوم على التجريب الفني إعادة الاعتبار للذات ولغة اليومي والنبش في الذاكرة واستغوار المتخيل الاجتماعي.

هو تموقع جديد للروائي محمد برادة طلق معه المفهوم الفضفاض للالتزام في الكتابة القائم على إسقاط الوعي الإيديولوجي المباشر بالواقع على الأدب واستبدله بمفهوم الإدراك الروائي للعالم القائم على التشخيص الأدبي للغة، وتذويت الكتابة والانفتاح على أشكال الخطاب والتعبير الرائجة في المجتمع بهدف تجديد وتطوير الشكل الروائي. تلك كانت بعض ملامح المفهوم الجديد للكتابة الذي كرسه برادة في رواياته الثمانية، وهي رهانات ما انفكت تبحث عن الشفرة السرية لكتابة روائية تحرص على الجمع بين القبض على تدفق الحياة، ووضع مشروع الرواية المغربية الفتي على سكة الحداثة الروائية الكونية(…).

5 ـ تسأل الصحفية سندس الشرايبي الروائي محمد برادة:

ـ ما الذي يتعلمه الكاتب في ستين عاما من الكتابة؟

فيجيب:

ـ “يتعلم ضرورة أخذ الأشياء بكيفية جدلية. بمعنى أن لا شيء نهائي، حتى ما يتم إثباته على الورق، وأن نفس الشيء يمكن أن ينجز بطرق مختلفة. يتعلم أيضا أن الكاتب بحاجة إلى فضول متجدد باستمرار وأن الكتابة مواجهة مستمرة مع الذات، في حين تبقى المشاعر أقوى من العقل. يتعلم أن تعقيد المشاعر لا يمكن استغواره إلا عبر الكتابة التي تفهمنا أن الأشياء والعالم يمكن أن يكونا غير ما هما عليه”. ثم ينهي كلامه بالقول: أجد هذا رائعا!”.

أن يكون محمد برادة بيننا في منتصف عقده الثامن ما يزال يصدح بكل هذا العنفوان. يحرضنا على مزيد من حب الحياة والأدب: هذا ما أجده أنا رائعا! (…).

نقطة،عودة إلى السطر!

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *