عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي، النيّة - Marayana - مرايانا
×
×

عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي، النيّة

لا يمكن للعاقل، مهما شط به التأويل وكيفما كانت دوافعه، أن يقتنع بصدق (النية) كصيغة للقدح في (العمل)، ولا في (العمل)، مهما كانت طبيعته، بديلا للإراة العقلية التي تجعل منه قيمة ذاتية حتى ولو ارتهنت لبنية ما في المجال الاقتصادي أو في غيره، وما ذلك في حقيقة الأمر إلا لأن العمل هو مجموعة من الأنشطة يقوم بها الفرد بهدف الوصول إلى نتيجة، بينما لا يمكن أن نتصور النية إلا في علاقة إيديولوجية بالإيمان الديني.
التعارض ليس مفهوميا، بل من صميم التحديد النظري الذي يضع لكل قضية صفة تؤطرها بحسب الاستعمال في سياق خاص موائم.

الدلالة اللغوية للكلمات، تتعارض مع الاصطلاحات التي ينحتها أو يتبناها الفقيه السُني المالكي لكثير مما يجري منها على لسانه أو تسكن في تأويله. بل ويمكن القول أيضا إنها، في بعض الأحيان، تكون ضده ولا تستجيب لما يتصوره لعمل أو لفعل أو لقضية ما؛ وهو في جميع الأحوال لا يحقق أي تواؤم، في الحالات القليلة التي يسعفه فيها البيان، إلا عندما تصطدم نواياه مع أعماله أو معاملات غيره، أي عندما يكون العمل عقدا وشريعة خاصة بين المتعاقدين لا يمكن لأي طرف أن يخرقهما، وإلا كان الجزاء عقابا له، فتصبح الدلالة اللغوية للكلمة، في هذه الحالة، محددة ومعناها دقيق لا يصلح فيه أي تأويل… إلا إذا كان الغرض منه هو الإفساد، إفساد المعنى والاحتيال على المُخاطَب أو المُتَعاقد.

ونعلم من (الدرس) الفقهي، وَمَوَادّهُ قد تَوَاتَرَتْ على لسان من أوَّلُوه، أنّ (النية) هي (توجه النفس نحو العمل)، كما أنها في الفقه عموما (عزم القلب وعقده على فعل ما). مثلما يكون المراد، بحسب هذا، هو (قصد الطاعة والتقرب إلى الله). لهذا، قيل: “النية أبلغ من العمل”، كما جاء في حديث ضعيف أن (نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته)، بل ويصبح (العمل) في هذا الحديث الضعيف أهم من (النية) إذا كان المنتوي (منافقا)؛ وهو أمر غريب تماما لا يستقيم، لكنه يكشف عن شيء مهم: أراه في أن (المنافق) ليس بالضرورة كافرا، و(نفاقه) ليس مما يعاب عليه إلا من ناحية السلوك القويم الذي يجب أن يتحلى به المؤمن، وأن يكون (عمله)، إذا كان متقنا، أهم من (نيته) لَهُوّ أبلغ دليل على أن جدوى عمل (المنافق) ماديا أعظم وأصلح من (نية) المؤمن مثاليا… هذا الذي لا يرى (النية) إلا في اعتقاده وقد يجدها افتراضا في نفسيته.

وحقيقة هذا في التأويل المقاصدي أنه يُعلي من شأن (النفس) كتصور مثالي، وقد يتضمن ما هو ضد العمل، ويسعى جاهدا لتسفيه العمل ولو كان مجديا، مع أن (نفس) صاحبه قد لا تكون كذلك. وهذا تناقض جوهري بين طبيعة العمل من الناحية المادية، وطبيعة (النية) من الناحية النفسية-المثالية. مما يعني أيضا أن التأويل المقاصدي، فضلا عن النزوع الديني المطلق، فيه دعوة صريحة للتنقيص من الفعالية البدنية والعقلية (دعوة للتواكل) التي تجعل العمل، كما قال علال الفاسي في أحد فصول “النقد الذاتي”، قيمة مادية هي في أساس تطور الإنسان في المجال الاقتصادي وفي غيره.

ومن الجلي أن في التأويل المقاصدي، بالضرورة، مصادرة للعقل عندما نُقَدٍّر، حسب منطوق بعض فقهائه، مدى (تأثير النية على صحة العمل)، أي أيضا فيما وجده أحَدٌ منهم عندما قال إن (النية هي الباعث النفسي… ومناط الثواب في الآخرة). ثم أضاف إن (النية) “أمر باطني خفي لا يمكن الوقوف عليه”، وأن “المالكية… أخذوا بالدوافع والنيات” إلخ…

والغرابة في هذا أن الأمر يتعلق بالمعاملات في مختلف ميادين الحياة، ونجده في (العقود والالتزامات) بَيٍّناً كافتراض قبلي به تصح من حيث المبدأ… وإذا لم تصح فإن النية، في جميع الأحوال، كانت، في تأويل الفقيه المالكي، صحيحة. ولو تساءلنا لماذ؟ لقال لنا الفقيه المالكي على لسان ابن سينا: (إن الذي خلق النفس هو الله تعالى)، أي في مصادقته على الاعتقاد المثالي الراسخ في التصور الأفلاطوني من أن (النفوس أبدية أزلية وُجدت قبل الجسد) رغم إقرار ابن سينا باستحالة ذلك لأن (النفس) هبطت إلى الجسد من (المحل الأرفع، محجوبة على كلٍّ مُقْلَةٍ عارف).

لا يمكن للعاقل، مهما شط به التأويل وكيفما كانت دوافعه، أن يقتنع بصدق (النية) كصيغة للقدح في (العمل)، ولا في (العمل)، مهما كانت طبيعته، بديلا للإراة العقلية التي تجعل منه قيمة ذاتية حتى ولو ارتهنت لبنية ما في المجال الاقتصادي أو في غيره، وما ذلك في حقيقة الأمر إلا لأن العمل هو مجموعة من الأنشطة يقوم بها الفرد بهدف الوصول إلى نتيجة، بينما لا يمكن أن نتصور النية إلا في علاقة إيديولوجية بالإيمان الديني.

التعارض ليس مفهوميا، بل من صميم التحديد النظري الذي يضع لكل قضية صفة تؤطرها بحسب الاستعمال في سياق خاص موائم.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *