عبد القادر الشاوي، يكتب: آني إرنو، الذات والنوسطالجيا - Marayana - مرايانا
×
×

عبد القادر الشاوي، يكتب: آني إرنو، الذات والنوسطالجيا

المركز التجاري في هذه اليوميات الروائية موعد إنساني كبير، بل عرض “مسرحي” يستقطب جميع المشاهدين والمتتبعين (المتسوقين)، بل ولا يوجد مجال عمومي أو خاص يتطور ويترافق فيه المقدار الهائل من الأفراد المختلفين في سنوات أعمارهم وفي دخولهم المالية وفي ثقافاتهم وأصولهم الجغرافية والإثنية. وهو كذلك بالنسبة للكاتبة مكان للعمل وللكتابة أيضا، بل وتقول، بصريح العبارة، إنها كانت من قبل تنعزل في مكان بعيد (قرية Nievre) لتحقيق تلك الرغبة التي تغزوها في كل حين، إلا أنها وجت ضالتها في Leclerc على بعد خمس كلمترات فقط من بيتها…
وفي هذا كانت تنحشر بين الآخرين (ناظرة إلى العالم)، بل وفيه، أي في هذا العالم بالذات، للأهمية القصوى التي تحوله إلى ضرورة.

من ألطف روايات آني إرنو (Annie Ernaux)، وهي في التجنيس المفترض يوميات دونتها عام 2013، تلك التي تحمل عنوانا مثيرا لا أعرف إن كان ينطبق على نصها تمام الانطباق، أي: أنظر إلى الأضواء يا حبيبي Regarde les lumières mon amour.

وفي المقدمة أنها، استنادا إلى تجربتها الشخصية وما استخلصته منها بالمشاهدة العيانية، أرادت أن تضع سجلا يوميا تقريبا لزياراتها المتكررة قصد التبضع والمشاهدة للأسواق العصرية التي أصبحت ظاهرة (اجتماعية) تستقطب مختلف الزبناء من مختلف الأقوام والمستويات؛ فيما هي تعرض عليهم بصورة جماعية، لم تكن معروفة من قبل، خليطا من المعروضات المتنوعة في كل ما يتعلق بحيواتهم اليومية وأذواقهم الخاصة ورغائبهم المتنوعة، تلك التي تستجيب للحاجيات العامة الضرورية وغير الضرورية، وفيها المفروضة كذلك، مثلما يستجيب هؤلاء للصيغ الإشهارية التي تغريهم بالشراء، وربما تحثهم على مزيد من الإنفاق.

جاءتها الفكرة، كما تقول، عندما ذهبت للتبضع في مركز حديث للتسوق بمدينة (Kosice) فتح أبوابه لأول مرة، وهو الأول من نوعه، بعد سقوط النظام الشيوعي في سلوفاكيا. وأول ما لاحظته، بعد وصف لموقع المركز وطبيعته ومساحته إلخ، أنها رأت امرأة، تراقب بانتباه حاد، حركة الزبناء بين المعروضات، وأن كل شيء في تصرفات المتسوقين كان يكشف عن إعجابهم وعدم تعودهم على الخدمات الحرة المتروكة لرغباتهم وقدراتهم على الشراء. فكان يظهر لها أن المتسوقين كانوا يقفون أمام البضائع المعروضة فلا يلمسونها، ومنهم من يتردد حذرا فيعود على أعقابه إلى الخلف كما لو أن الأمر يتعلق بتموج غير مرئي لجسوم مغامرة في أرض مجهولة. والواقع أنهم كانوا يتدربون على طبيعة مركز التسوق والقواعد المعمول بها داخله كما حددتها إدارته.

من هنا، أيضا، أرادت أن تختبر قدرتها الأدبية والإنسانية الخاصة، وذلك من أجل أن (تسرد الحياة)، حياتها وحياة الناس، فقررت بدون تردد أن تختار لذلك مركزا صغيرا للتسوق في فرنسا واسمه Auchan  المعروف، وذلك طوال سنة كاملة تقريبا من نوفمبر 2012 إلى أكتوبر 2013.

المثير في هذه اليوميات، بعد أن وفقت من خلال الملاحظة الثاقبة والوصف الدقيق ذي الطابع الروائي لواقع مركز التسوقAuchan ، أنها عادت إلى الموضوع بعد ثلاث سنوات لتلاحظ مجمل التغيرات التي طرأت على المركز المذكور وعلى طريقة عرضه للمنتوجات التي يُقبل الناس على شرائها، وأيضا على الاختيارات الجديدة، شكلا ومضمونا، التي طرأت على نوعية المعروضات (ظاهرة البْيُو الطري مثلا). والأهم من ذلك فيما يتعلق ب Auchan نفسه، في إطار تلك التغييرات الكبيرة والحاسمة على مستويات معينة (جماليا)، أنها أشارت إلى تلك الأخبار الجديدة المتداولة عن المركز التجاري (Les Trois-Fontaines) الذي سيتوسع، من حيث الحجم والمساحة، إلى خمسة عشر ألف متر مربع، وأن Auchan في هذه المساحة الكبيرة، وهذا هو المثير في تقديرها، لن يحتل إلا الطابق السفلي فقط من مجملها. وإنما أشارت إلى ذلك لكي تقول، تقريبا بشيء من الوجع والنوسطالجية المؤكدة، أن Auchan يصير إلى عدم… وهي التي كانت تقضي فيه، على امتداد خمسة وعشرين سنة، قرابة الساعتين كل أسبوع… مثلما صار إلى عدم Leclerc الذي اشترت فيه في الثمانينيات آخر لَوْح من الشوكولاته لأمها في المستشفى، ومثلما صار إلى عدم آخر (الكارفور) الصغير الذي كان موجودا في شارع Parmelan في مدينة Annecy … فكل تلك الأماكن التي ازدحمت في السنوات الخوالي بالمتسوقين أصبحت مهجورة لا يقصدها أحد… فهل يكون في إحساسها ما تسميه، بالشك والاستغراب، نوعا مما يمكن تسميته بـ(نوسطالجيا مراكز التسوق الصغيرة)؟

إلا أن هذه اليوميات (الروائية) تحفل أيضا بالتتبع الدقيق من خلال المشاهدة لمختلف الأحداث والتطورات والوقائع التي تقع عليها أو تراها أو تنفعل بها. وفي هذه العملة الحسية التي يتحول فيها الشعور إلى عواطف تلهج، من خلال البيان، بجميع الانفعالات المحتملة، تصبح الكتابة ليس فقط أداة لاقطة واصفة، بل وطريقة أخرى من التعبير عن الانفعالات… فتكون النتيجة على مستويين: تَسَاوُق تلك الأحداث والتطورات والوقائع لأنها تجري في زمنها في استقلال ذاتي وحركة وتوالٍ، فترصد سيرها وانعكاساتها على مختلف الأوضاع القائمة في المجال بعنصريه:

أ‌- مركز التسوق والبضائع المعروضة فيه والأشكال الإشهارية والدعائية التي تحث الزبناء على التبضع والشراء والإنفاق،

ب‌-  ووضعية أو حالة الزبناء الموجودين والمتوافدين على المركز لمختلف الأغراض التي يختارونها، وعلى رأسها التسوق، والبعض للتجول والاستمتاع بالمرافق التي تستجلب اهتمامه بإيعاز من إشهار ملحاح معين أو بدونه إلخ.

وعلى هذا كله، تقول إرنو: عادة ما ارتبكتُ، مباشرة بعد خروجي من مركز التسوق الصغير، بإحساس من العجز والظلم. ومع ذلك، فإنني لم أتخلص من شعوري بجاذبية هذا المكان وللحياة الجماعية، الدقيقة، الخاصة، التي تجري فيه.

المركز التجاري في هذه اليوميات الروائية موعد إنساني كبير، بل عرض “مسرحي” يستقطب جميع المشاهدين والمتتبعين (المتسوقين)، بل ولا يوجد مجال عمومي أو خاص يتطور ويترافق فيه المقدار الهائل من الأفراد المختلفين في سنوات أعمارهم وفي دخولهم المالية وفي ثقافاتهم وأصولهم الجغرافية والإثنية. وهو كذلك بالنسبة للكاتبة مكان للعمل وللكتابة أيضا، بل وتقول، بصريح العبارة، إنها كانت من قبل تنعزل في مكان بعيد (قرية Nievre) لتحقيق تلك الرغبة التي تغزوها في كل حين، إلا أنها وجت ضالتها في Leclerc على بعد خمس كلمترات فقط من بيتها… وفي هذا كانت تنحشر بين الآخرين (ناظرة إلى العالم)، بل وفيه، أي في هذا العالم بالذات، للأهمية القصوى التي تحوله إلى ضرورة.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *