حسين الوادعي: هل ننجح في الخروج من جدلية السيد والعبد؟ - Marayana - مرايانا
×
×

حسين الوادعي: هل ننجح في الخروج من جدلية السيد والعبد؟

…الثائر في ساحات الربيع العربي، كان ينجرف إلى ميدان الكرامة المتعالية، ليستبعد من مجال الكرامة المتساوية ويرفض الاعتراف بكل من اختلف معه في موقفه من الثورة، وكان هذا جلياً في القاموس التحقيري المتوسع للثوّار (فلول، شبيه، بلطجية، بلاطجة، بقايا نظام ….).
تم استخدام هذا القاموس التحقيري بتوسع مع مضي الاحتجاجات في الزمن، لتضم ليس فقط مَنْ اعتدوا على الثوّار جسدياً ومارسوا ضدهم عنفاً مفرطاً، بل ضد كل مَنْ أراد الوقوف على الحياد أو نقد الربيع العربي والتحذير من انحرافاته. لكن الأخطر من ذلك، هو القوى الطائفية التي استغلت الربيع العربي للصعود وطرحت مفهومها للكرامة باعتباره نوعاً من الاعتراف بخصوصيتها وتفوقها، ومظلوميتها الخاصة، والوحيدة، والمتفردة.

من الحقائق الأليمة في التاريخ البشري غلبة فترات الاضطهاد والظلم مقارنة بفترات المساواة والعدل.

فقير وغني… قوي وضعيف… مسيطر وتابع.

يرى هيجل أن الإنسان يختلف عن الحيوان اختلافاً أساسياً في أنه، علاوة على الاحتياجات المادية، يرغب ويتطلع إلى اعتراف الآخرين به وتقديره. إنه يريد من الآخرين الاعتراف به كائناً بشرياً له قدره وكرامته.

ويرى أن سعي الإنسان من أجل الكرامة والاعتراف قاده في طرقات متعددة من بينها الموت من أجل الحصول على الاعتراف. وبسبب الصراع على الاعتراف، انقسم النوع البشري إلى طبقتين رئيسيتين: الطبقة التي غامرت بحياتها من أجل الحصول على الاعتراف وأصبحت طبقة السادة، وطبقة العبيد الذين استسلموا لخوفهم الغريزي من الموت.

بهذا، ولد المجتمع الارستقراطي.

لكن الكرامة التي أنتجها المجتمع الأرستقراطي لم تنجح في إضفاء الإحساس بالكرامة لا للسادة ولا بالنسبة للعبيد. العبيد فقدوا إحساس الكرامة بسبب تعامل الأسياد معهم باعتبارهم نوعاً إنسانياً أدنى، بينما السادة أنفسهم لم يشبِعوا رغبتهم في الإحساس بالاعتراف لأن الأسياد الآخرين لم يعترفوا بهم بسبب الصراع على السلطة والثروة. كان هذا التناقض هو منبع الضعف في كرامة المجتمع الأرستقراطي ولم يتم حل هذا التناقض، بحسب هيجل، إلا بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية اللتين ألغتا التوتر بين العبيد والأسياد وبين الأسياد والأسياد، وأقرّتا مبدأ سيادة الشعب وحكم القانون.

بدلاً من الكرامة الأرستقراطية، ساد مفهوم كوني للكرامة يقول إن كل البشر متساوون في درجة الكرامة بسبب قدرتهم على التفكير وعلى الاختيار الأخلاقي. وقد حلت الدولة الحديثة هذا التناقض في الصراع من أجل الكرامة عن طريق كفالة الحقوق لجميع المواطنين وضمان الاعتراف المتبادل والشامل.

في كتاب “نهاية التاريخ”، ناقش فوكوياما صراع الكرامة في مجتمعين مختلفين: الديمقراطيات الغربية، ودول أوروبا الشرقية الخارجة من الستار الشيوعي. وكان التساؤل الرئيسي له عن المخاطر التي تتعرض لها المجتمعات الخارجة حديثاً من ربقة ديكتاتوريات شمولية، فما الذي يحدث لها؟

يرى فوكوياما أن هذه الشعوب تكون متعطشة جداً للحرية وللكرامة ولتأسيس أنظمة سياسية متسامحة وديمقراطية وتمثيلية. لكن الطابع المعقد للكرامة والرغبة في الاعتراف بالذات كمعركة من أقدم معارك التاريخ البشري يجعل هذه الجهود في مهب الريح.

بحسب هذا التعريف السياسي للكرامة، كان ظهور القوميات وصراعها نوعاً من البحث عن الاعتراف والتقدير على مستوى الدول، وكانت الإمبريالية والاستعمار نوعاً من البحث عن الاعتراف والتقدير على المستوى العالمي. لكن القومية والإمبريالية كانتا تحملان ذلك التناقض القديم الذي تحدّث عنه هيجل، وهو أنهما تتضمنان اعترافاً غير متبادل وغير متكافئ: اعتراف بكرامة طرف واحد فقط هو الطرف الأقوى (القومية المسيطرة أو المستعمر)، وتنزع الكرامة عن الطرف المستضعَف؛ مما يؤدي إلى استمرار الصراع الطويل من أجل الكرامة.

أما القوميات في الدول المستقلة، فلم تنجح في مواجهة تحدي الكرامة لأنها أعادت إنتاج ثنائية السيد والعبد على المستوى الداخلي بتأسيس دكتاتوريات وطنية، عسكرية أو أوتوقراطية، تسعى لفرض أيديولوجيا موحدة على الجميع.

من أجل ذلك، يرى فوكوياما أن النظام السياسي العالمي الذي تتحقق فيه الكرامة والاعتراف المتساوي للجميع هو النظام الذي تكون فيه كل أو أغلب دول العالم دولاً ديمقراطية ليبرالية؛ فالديمقراطيات لا تدخل في حروب ضد بعضها حتى لو كانت تمتلك القدرة على ذلك. بحسب فوكوياما، فشلت الشيوعية بحسب هذا التفسير لأنها وفّرت شكلا معيبا جدا من أشكال الاعتراف بالناس وتقدير ذاتهم، بينما نجحت الليبرالية لأن الشكل الذي قدمته للكرامة والاعتراف بالذات نجح في إشباع رغبة الناس إلى حد كبير.

لكن توقعات فوكوياما فشلت على ما يبدو، فها هي المجتمعات الليبرالية الديمقراطية تعيش أزمة اعتراف مركبة. إذا كان التناقض بين الحرية والعدالة هو مكمن أزمة الكرامة في الأنظمة الشيوعية، فإن التناقض بين الحرية والمساواة هو مكمن أزمة الكرامة في الأنظمة الرأسمالية.

قامت الدولة الليبرالية الحديثة على جناحي الاقتصاد والاعتراف. الاقتصاد الذي يمنح الناس مساواة واسعة في مجال الدخل والكسب والخيارات، والاعتراف الذي يعطيهم قدراً متساوياً من الكرامة وتقدير الذات. لكن، مع تطور الرأسمالية، تظهر فجوات بين الناس في الدخل تؤدي تدريجياً إلى لامساواة متسارعة داخل المجتمع الرأسمالي نفسه.

صحيح أن اللامساواة لا تعني الفقر، لأنه حتى الأشخاص الذين يقبعون في أسفل سلم الدخل في المجتمعات الرأسمالية يتمتعون بإشباع أغلب احتياجاتهم الأساسية، إلا أن مقارنة أنفسهم بغيرهم تجعلهم يحسون بأن الاعتراف المتكافئ يتحول إلى اعتراف غير متكافئ، وتتحول التوترات الناتجة عن عدم المساواة بين الطبقة الوسطى والطبقة العليا وبين السود والبيض وبين المهاجرين والسكان الأصليين إلى توترات جديدة حول الاعتراف والكرامة تجعل المجتمع الرأسمالي ساحة لموجات غضب متلاحقة.

بعيدا عن العالم الديمقراطي الليبرالي، فشلت انتفاضات ما سمي بالربيع العربي في تحقيق مفهوم الكرامة والاعتراف المتبادل وأعادت خلق نفس تعقيدات علاقة السيد والعبد والمستبد والمستبد به. فهل علاقات القهر المتبادلة بين البشر علاقات غير قابلة للانتهاء؟

يطلق برهان غليون على الدولة العربية ما بعد الاستقلال مصطلح الدولة التحديثية وليس الدولة الحديثة، ويرى أن الدولة التحديثية نقلت الشعوب العربية من مرحلة الخلاص من الاستعمار الخارجي إلى مرحلة تأسيس استعمار داخلي تسيطر فيه نخبة محلية على السلطة، مقابل تقهقر شامل لبقية الفئات الاجتماعية. وعندما جاءت انتفاضات ما سمي بالربيع العربي، كانت في جزء منها ثورة ضد الاستعمار الداخلي وضد التقسيم الجديد للسكان المحليين إلى أقلية من السادة وأغلبية من التابعين. لكن الربيع العربي فشل في إنهاء علاقة السيد-العبد.

إذا كان هيجل قد عجز عن تقديم نموذج تفسيري لعقدة السيد والعبد المزمنة في التاريخ البشري، فهل يحق لنا العودة لأفلاطون لتسليط بعض الأضواء؟

يقسم أفلاطون إذا أجزاء النفس البشرية إلى (عقل nous، ورغبه epithumia، وغضب thumos)، لكن الجزء الغاضب من الإنسان الثيموس – بحسب التسمية الأفلاطونية- ليس أحادياً؛ إن الثيموس هو الجزء من النفس البشرية المتعلق برغبة البشر في الحصول على الاعتراف. ويرى أفلاطون أن هذه الرغبة السامية ليست ذات بعد واحد بل بعدين: البعد الأول بعد إيجابي وهو “الاعتراف المتساوي”، أي رغبة الفرد في أن يعترف به الآخرون بأنه مساوٍ لهم، بينما “الاعتراف المتضخم” هو رغبة الفرد في أن يعترف الآخرون بأنه أعلى منهم.

فهل كانت الكرامة في الربيع العربي من نوع الاعتراف المتساوي أم الاعتراف المتضخم؟

لقد تشكلت ساحات وميادين ما سمي بالربيع العربي من حركات سياسية واجتماعية وأيديولوجية متناقضة الأفكار والرؤى. ولا شك أن الكرامة بمفهوميها المساواتي والمتعالي كان لهما حضورهما ضمن الشعارات والحركات والاحتجاجات. إن الثائر نفسه قد تأرجح بين طرحه ومطالبته بمفهوم الكرامة للجميع، الكرامة المتساوية حين كان يطالب بدولة النظام والقانون لكل المواطنين بغض النظر عن عرقهم، أو دينهم، أو جنسهم، أو وضعهم الاجتماعي. لكنه كان ينجرف إلى ميدان الكرامة المتعالية ليستبعد من مجال الكرامة المتساوية ويرفض الاعتراف بكل من اختلف معه في موقفه من الثورة، وكان هذا جلياً في القاموس التحقيري المتوسع للثوّار (فلول، شبيه، بلطجية، بلاطجة، بقايا نظام ….).

تم استخدام هذا القاموس التحقيري بتوسع مع مضي الاحتجاجات في الزمن، لتضم ليس فقط مَنْ اعتدوا على الثوّار جسدياً ومارسوا ضدهم عنفاً مفرطاً، بل ضد كل مَنْ أراد الوقوف على الحياد أو نقد الربيع العربي والتحذير من انحرافاته. لكن الأخطر من ذلك، هو القوى الطائفية التي استغلت الربيع العربي للصعود وطرحت مفهومها للكرامة باعتباره نوعاً من الاعتراف بخصوصيتها وتفوقها، ومظلوميتها الخاصة، والوحيدة، والمتفردة.

تبدو جدلية السيد والعبد معقدة مثلما هي أكثر حقائق التاريخ البشري مأساوية.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *