حسين الوادعي: المعري ناقدا للكون وناقما على أبي البشر! - Marayana - مرايانا
×
×

حسين الوادعي: المعري ناقدا للكون وناقما على أبي البشر!

التفسير اللاهوتي يرى أن البشرية تناسلت من أب واحد وأم واحدة (آدم وحواء)، الذين كونا أسرة واحدة كان لا بد فيها أن يتزوج الإخوة من أخواتهم لاستمرار النسل. بينما التفسير العلمي التطوري يقول إنه كانت هناك أنواع متعددة تطورت عن بعضها بحيث يتم التكاثر ضمن جماعات بعيدا عن الوقوع في خطأ زواج المحارم.

التقط أبو العلاء المعري هذه الإشكالية وحولها إلى جرح نرجسي عميق للنفس البشرية وقال فيها شعرا صادما في سخريته وهجائه للجنس البشري أجمع.

ومعنى شعر المعري أننا إذا مشينا وراء القصة التقليدية التي تقول إن آدم وحواء كانا يزوجان أبناءهما ببناتهما من أجل التكاثر، فإن البشرية كلها ستكون نتيجة لزنا المحارم!

يبدو أن كل تفسير من التفسيرين (آدم وداروين) يضعنا في مأزق من نوع مختلف!

كان أبو العلاء المعري شاعرا وفيلسوفا رافضا.

لقد رفض عادات قومه وعقائدهم وسياساتهم، ورفضه لفساد الناس والحكام في زمنه معروف ومبثوث في شعره. وقد استطاع هادي العلوي أن يجمع كتابا كاملا من أقوال المعري حول “نقد الدين والدولة والناس”.

نقد المعري كل الأديان وليس دين الإسلام، فقط ورأى في الديانات حيلة من القدماء للتحكم في الناس واحتكار السلطة.

ونقد سياسة عصره وسياسييها وفسادها. ونقد ناس عصره بأكملهم ولم ير فيهم غير الشر والحسد والعدوان إلى الدرجة التي تضع المعري في صف الفلاسفة الذين رؤوا أن الانسان شرير بطبعه، أو بعبارة هوبز: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.

غير أن رفض المعري قد تجاوز الدين والسياسة والدول ليصل إلى الرفض الشامل لنظام الطبيعة والخلق والكون. بالنسبة للمعري، ليست العلاقات بين البشر فقط غير عادلة، بل أن علاقة الانسان بالطبيعة تفتقر إلى العدل هي الأخرى. فها هو الإنسان يعتدي على الطير والحيوانات ويقتل الأم فيحرم أولادها من رعايتها ويصطاد صغار الحيوانات فيفجع أمهاتها. هذا اللاتوازن والظلم في نظام الطبيعة دفعه إلى تبني حمية نباتية صارمة.

ولو ظننت أن المعري نباتي بالمعنى المعتاد في اللغة الإنجليزية، vegetarian، فأنت مخطئ. هذه الفئة من النباتين تأكل البيض وتشرب اللبن وغيرها من مشتقات الحيوانات. أما المعري، فهو أقرب إلى الـvegan ، وهم النباتيون الذين يرفضون حتى تناول المنتجات المشتقة من الحيوانات، حتى دون قتلها.  نباتية المعري تتجاوز الحيوانات إلى الحشرات، فحرم على نفسه العسل واعتبر أن جني العسل من خلايا النحل نهب لمجهودها الذي صنعته لها لا لغيرها.

لقد وصل إلى حالة الرفض الكوني الشامل.

فالكون فاسد.

والطبيعة ظالمة.

والإنسان سيء بطبعه.

والسبب هو ظلم الإله وجريمة آدم في إنجاب البشر.

بالنسبة للمعري، فالخلل في الطبيعة خلل جوهري، ولو لمنا الطبيعة لِخللها، فإننا نلوم الخالق الذي صنعها على هذا النقص والخلل.

جِبِلَّةٌ بِالفَسادِ واشِجَةٌ ** إِن لامَها المَرءُ لامَ جابِلَها.

وإذا كان البشر قد استخرجوا الحديد وصنعوا منه الأسلحة ليقتلوا ويذبحوا، فإن الله هو خالق هذا الحديد وكان يعرف عندما خلقه أنهم سيستخدمونه للقتل والشر.

واختلال العدالة في الكون نابع من غياب العدالة الإلهية. فالإله كما يراه المعري يصنع الشيء ونقيضه ويطلب من عباده ترك بعض الأفعال بينما هو يقوم بها. فقد حرم على عباده قتل النفوس تعمدا، بينما يبعث هو ملاك الموت لقتلها عمدا. وبعد موتهم يبعثهم، مرة أخرى. فلماذا أماتهم من الأساس ولماذا لا يغنيهم عن هذا العذاب؟

صرف الزمان مفرّق الإلفين   **    فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

أنهيت عن قتل النفوس تعمدًا   **   وبعثت أنت لأهلها ملكين

وزعمت أن لها معادًا ثانيًا      **     ما كان أغناها عن الحالين.

لقد رفض عادات قومه وعقائدهم وسياساتهم، لكنه لم يكتف بهذا فقط، بل وصل إلى حالة الرفض الكوني الشامل.

لم يرفض ناس عصره لكنه وصل برفضه إلى الإنسان الأول آدم، وإلى فكرة الخليقة وتسلسلها. إن البشرية عند المعري نتيجة خطأ ارتكبه أبو البشر.

يطرح التاريخ المقدس للتطور البشري إشكالية بيولوجية/أخلاقية معقدة هي إشكالية التناسل والتكاثر عند الإنسان الأول.

في مقابل تفسير العلمي، هناك التفسير اللاهوتي الذي يرى أن البشرية تناسلت من أب واحد وأم واحدة (آدم وحواء)، الذين كونا أسرة واحدة كان لا بد فيها أن يتزوج الإخوة من أخواتهم لاستمرار النسل. بينما التفسير العلمي التطوري يقول إنه كانت هناك أنواع متعددة تطورت عن بعضها بحيث يتم التكاثر ضمن جماعات بعيدا عن الوقوع في خطأ زواج المحارم.

التقط أبو العلاء المعري (سامحه الله) هذه الإشكالية وحولها إلى جرح نرجسي عميق للنفس البشرية وقال فيها شعرا صادما في سخريته وهجائه للجنس البشري أجمع:

إذا ما ذكرنا آدمــــــــاً وفعالــــه………وتزويجه لابنيه بنتيه في الخنا

علمنا بأن الخلق من نسل فاجرٍ …….وأن جميع الخلق من عنصر الزنا

ومعنى شعر المعري أننا إذا مشينا وراء القصة التقليدية التي تقول إن آدم وحواء كانا يزوجان أبناءهما ببناتهما من أجل التكاثر، فإن البشرية كلها ستكون نتيجة لزنا المحارم!

يبدو أن كل تفسير من التفسيرين (آدم وداروين) يضعنا في مأزق من نوع مختلف!

إن عقدة أوديب (عقدة قتل الأب) والرغبة في الخلاص منه واضحة أشد الوضوح في موقف المعري من آدم. إن الخطيئة الأولى عند المعري هي خطيئة آدم في إنجاب هذه البشرية الحمقاء. والناس على ضلال وحمق لأن أباهم كان كذلك.

دع آدمًا لا شفاهُ اللهُ من هبلٍ        يبكي على نجلهِ المقتولِ هابيلا

ففي عقابِ الذي أبداهُ من خطأ     ظللنا نمارسُ من سُقمٍ عقابيلا

دهرٌ يكرُ ويومٌ ما يَمرُّ بنا               إلاّ يزيدُ به المعقولُ تخبيلا

ولأن آدم أحمق، يسخر المعري من محاولات البشر إنجاب أطفال نجباء. فكيف يكون ذلك وأبو البشرية أحمق بلغ به حمقه أن يزرع بذور الكراهية بين قابيل وهابيل بعد فشله في حل الخلاف بينهما واقتراحه تقديم قربان للإله سيذهب في مصلحة هابيل.

فحمق آدم في حل خلافات أولاده، حسب المعري، هو السبب في أول جريمة في تاريخ البشرية.

بني الأرضِ ما تحتَ الترابِ مُوفَّقٌ … لرُشدٍ، ولا فوقَ الترابِ سوى فَسل

أكانَ أبوكُمْ آدَمٌ، في الذي أتَى، … نجيباً، فترجونَ النّجابَةَ للنّسل؟

وحواء أم البشر لم تكن جيدة في الزواج بشخص مثل آدم ينقصه العقل والحزم. لهذا، لقحها بجينات نسل جاهل أحمق مثله فلا يمكن أن يأتي نسل ذكي من أب يفتقد للجودة. وهذا هو السبب في غلبة الجهل على العقل عند أغلبية البشر.

كأنَ حواء التي زوجُها          آدمُ لم تلقَحْ بشخصٍ أريبْ

قد كثرتْ في الأرض جهالنا     والعاقل الحازم فينا غريبْ

لقد قرر المعري أن يقتل الأب بالمعني الفرويدي العام لكلمة الأب. والأب هنا له ثلاث تجليات: التجلي الأول هو الأب المباشر للمعري الذي أنجبه ظلما وقذفه إلى هذه الدنيا الظالمة بغير إرادة منه. وهذه الجناية الفردية عبر عنها في بيت الشعر الشهير الذي قدم فيه فلسفته اللاإنجابية:

هذا ما جناهُ أبي عليَّ           وما جَنيتُ على أحد!

فإذا كان أبي قد ارتكب جناية إنجابي في هذا العالم الفاسد وسط هذا الكون الفاسد لأعيش وسط هؤلاء القوم الذين يغلب عليهم الضلال والجهل والفساد، فإنني لن أرتكب نفس الجريمة ولن أنجب أشخاصا بائسين في هذه الدنيا.

أما التجلي الثاني لفكرة قتل الأب عند المعري، فهي في قتل الأب الرمزي للبشر “آدم”؛ وقد أجهز المعري على آدم بقسوة لا مثيل لها فاتهمه بتشجيع أبنائه على الفاحشة بدفعهم للتزاوج من أجل الإنجاب؛ وقال إن البشر جميعهم هم نتاج زنا المحارم وأننا جميعا من نسل أب فاسق، وأن أغلب الناس جهلة لأنهم من نسل أحمق.

أما التجلي الثالث لفكرة قتل الأب، فنجده في كشف المعري لتناقضات فكرة الإله والنقص في الطبيعة وفي عدالتها الذي هو في حقيقته اتهام للإله بالنقص ودليل على غياب العدالة الإلهية.

ولم يشأ المعري أن يرحم حواء من نقده وغضبه، فتمنى لو أن كان طلقها أو حرمها على نفسه، فجناية حواء على البشر قرينة لجريمة آدم لأنها ولدتهم بغير طهارة. لهذا، جاء نسلها بقليل من الأطهار وأغلبية من الأشرار:

يا ليت آدم كان طلق أمهم                 أو كان حرمها عليه ظهار

ولدتهم في غير طهر عاركا              فلذاك تفقد فيهم الأطهار

فحواء عند المعري ظالمة ومظلومة معا. مظلومة لأنها منيت بزوج أحمق فاسد ولأنها حملت وولدت بلا رضا منها ولا إرادة. وظالمة لأنها ساهمت في مأساة إنجاب السلالة البشرية!

لكن فكرة قتل الأب عند المعري لا تؤدي إلى التحرر بسهولة، فالطبيعة والحياة والبشر فاسدة في أصلها. وشروط المعري للحياة الصالحة صعبة: حمية نباتية صارمة، اعتزال عن الناس، كراهية وتنفير للناس عن الزواج، ورفض كامل للإنجاب.

لهذا، لم يكن المعري رهين المحبسين فقط كما اشتهر عنه وكتب عنه المؤرخون (حبس العمى وحبس البيت). ولم يكن رهين المحابس الثلاثة فقط التي عبر عنها في شعره قائلا:

أراني في الثلاثة من سجوني             فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي                        وكون النفس في الجسد الخبيث

بل كان رهين سجون متعددة: العمى، الاعتزال، الجسد، المجتمع الفاسد، الحكومات الفاسدة، الطبيعة الفاسدة.

لهذا، جاءت فلسفته فلسفة تشاؤم ونقد كامل للناس والسياسة والدين، والبشر والإله والكون.

مقترحات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *