في ظل الظل: نساء المهمشين في اليمن… حين تسقطك العنصرية مرتين - Marayana
×
×

في ظل الظل: نساء المهمشين في اليمن… حين تسقطك العنصرية مرتين

نساء المهمشين في اليمن يعانين من تداخل التمييز العنصري والاجتماعي مع هشاشة الحماية القانونية والمجتمعية، ما يجعلهن أكثر عرضة للعنف الجسدي والجنسـي.
مع اندلاع الحرب سنة 2015، اضطرت هذه الفئة من النساء للعمل في ظروف خطرة، بينما يغيب عنهن الاعتراف بحقوقهن الأساسية، سواء في المخيمات أو في المؤسسات الرسمية، لتصبح حياتهن اليومية صراعًا مستمرًا من أجل البقاء والكرامة.

“المهمشون” أو ما يُعرف تاريخيًا بــ”الأخدام” هم مجموعة سكانية تعيش في اليمن منذ قرون. في الغالب، تسكن هذه الفئة، في أطراف المدن والأحياء الفقيرة. ويُنظر إليهم منذ القديم، على أنهم من طبقة اجتماعية دنيا، ويعانون من التهميش الممنهج في العمل، التعليم، والسكن.، تشير التقديرات إلى أن عددهم يتراوح بين 500 ألف وأكثر من مليون نسمة، بل هناك من يتحدث عن 3.5 مليون نسمة.

الأخدام، أو “المهمشون”، هم طبقة اجتماعية تحمل إرثًا ثقافيًا متوارثًا منذ العصر الإسلامي، حين تم تحويل رعايا الدولة النجاحية، إلى خدام لدى المجتمع اليمني، وذلك بعد انتصار الملك علي بن أحمد الزيادي الحميري وحرمانهم من كافة الحقوق والمزايا؛، وهو واقع محكوم بخلفيات عنصرية تشكك في هويتهم اليمنية.

في أحد مقاطع الفيديو التي راجت على منصات التواصل اليمنية، ظهرت شابة بعينين حزينتين تروي كيف تعرّضت للضرب فقط لأنها “سوداء البشرة”.، كانت كلماتها صادمة: “ضربني لأني خادمة.. لوني أسود”.، لم يمر المشهد، بل أعاد إلى الواجهة واقع التمييز العنصري الذي يثقل كاهل فئة “المهمشين” في اليمن.

“أتعرض يومياً للسب فقط لأنني سوداء”، تقول سماح، وهي واحدة من نساء المهمشين.

سماح، تشرح لــمجلة “مرايانا” أن الألفاظ العنصرية تلاحقها في الأسواق والطرقات، وأحياناً تتحول إلى اعتداءات جسدية، وتضيف أن الحرب دفعت الكثير من النساء إلى مهن قاسية ينظر إليها المجتمع بازدراء، مما ضاعف منسوب العنصرية الموجهة ضدهن.

تاريخياً، كانت حماية المهمشين تعتمد على الأعراف القبلية، إذ وفّر لهم شيوخ القبائل لهم مظلة اجتماعية محدودة مقابل خدمات متواضعة، كحراسة المزارع والمنازل، لكن، مع تفكك النسيج القبلي بفعل الحرب، ضعفت تلك الحماية وتكشّفت هشاشتها، فباتت فئة مهمشة بلا سند في مواجهة عنف المجتمع وقسوته.

العنف الجنسي والعدالة المعلقة: قصص نساء المهمشين

النساء دفعن الثمن الأكبر، في الحرب، فهن نساء ومنتميات إلى طبقة اجتماعية دنيا، الأمر الذي جعل معاناتهن أكثر تعقيداً، حيث لم يعد أمامهن سوى أعمال دنياخيارات قاسية محدودة، كالتسول أو تنظيف الشوارع والمجاري، خصوصاً بعد فقدان كثير من الرجال وظائفهم أو رحيلهم إلى جبهات القتال.، تقول سماح إن الترحال المستمر بدّد علاقات اجتماعية استقرّت نسبياً قبل الحرب، وإن العائلات أصبحت مشتتة: “رجالنا ذهبوا للحرب، ونحن خرجنا للأسواق بحثاً عن لقمة، لكننا خرجنا بلا حماية”.

حتى من حاول الدفاع عن كرامته لم ينجُ من الإهانة.، نعمان الحذيفي، رئيس الحركة الوطنية للمهمشين، يروي أنه حين وقف يوماً إلى جانب أخته بعد تعرضها للتحرش، عوقب علنا. يقول :”ضربت المتحرش دفاعاً عن أختي، لكنني حوكمت في السوق علنا.، قام عدل القرية بصفعي بحذاء أمام الناس جميعاً، في مشهد لن أنساه.، شعرت أنني مستضعف”. يقول نعمان إن أحد المشايخ أنصفه لاحقاً، لكن أثر الحادثة ظل مرافقاً له لفترة طويلة.

حسب تقرير لمركز صنعاء للدراسات، بعنوان: “المهمشات ضحايا منسيات في حرب اليمن” ، صرحت المحامية نبيلة الجبوبي أن نساء المهمشين أكثر عرضة للعنف الجنسي والانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي، خصوصاً في غياب أزواجهن الذين يعملون في مهن شاقة أو يقاتلون في الجبهات.، إلا أن العدالة نادراً ما تنصفهن، وإن السلطات الأمنية والنيابة تُبدي تجاوباً أولياً مع قضاياهن.، لكن، عند مرحلة التقاضي في المحاكم، تتوقف المسارات. ،  “إلى الآن، لم يصدر أي حكم في القضايا التي وصلت إليهم”، تضيف نبيلة الجبوبي.

المحامية اليمنية، وتشير إلى أن هناك فارقاً خفياً في التعامل مع قضايا المهمشات مقارنة بغيرهن من النساء، حتى وإن لم يظهر ذلك بوضوح في تعامل الجهات الرسمية، وتضرب مثالاً بقضية طفلة تعرضت للاغتصاب على يد عناصر مسلحة في تعز، إذ لم تُحدد لها أي جلسة محاكمة حتى اليوم.

شهادات ناشطين التقتهم منظمات محلية تكشف عن تصاعد الانتهاكات ضد المهمشات، من بينها حالات اغتصاب جماعي لفتيات صغيرات، غالباً ما تُجبر عائلات الضحايا على التنازل تحت تهديد السلاح أو الخوف من انتقام القبائل النافذة.  واحدة من أبرز هذه القضايا كانت قصة الطفلة “رسائل”،  التي وقعت ضحية اغتصاب جماعي على يد مجموعة من الشباب ينتمون إلى قبيلة مؤثرة في تعز.

القضية أثارت موجة تضامن شعبي واسع.، لكن الضغوط كانت أكبر، فقد تلقت أسرة “رسائل” تهديدات بالقتل إن استمرت في المطالبة بالعدالة، ثم تعرض أقاربها لإطلاق نار مباشر، بل واعتدت أسر المغتصبين على قريباتها النساء،  وفي النهاية، أُطلق سراح المعتدين، بينما جرى اعتقال أحد أفراد أسرة الضحية، ما أجبر العائلة على التنازل تحت وطأة الخوف والعزلة.

يرى أفراد فئة المهمشين أن التمييز ضدهم لا يقتصر على المجتمع فحسب، بل يمتد عميقاً داخل أجهزة الأمن والقضاء اليمنية، حيث تصبح العدالة بالنسبة لهم بعيدة المنال.  في هذا السياق، تؤكد المحامية نبيلة الجبوبي أن قضية الطفلة “رسائل”، التي مضى على اغتصابها أكثر من عام، ما تزال عالقة في أروقة المحاكم، هناك جلسات عُقدت بحضور الشهود، ومع ذلك لم يصدر أي حكم، رغم أن القانون يفرض الحسم خلال جلستين أو ثلاث كحد أقصى”.

وتشير الجبوبي إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في بطء التقاضي، بل في الانتهاكات داخل المؤسسات الأمنية نفسها، ما يجعل الثقة معدومة:، “من الضروري تفعيل جهاز الرقابة والتفتيش على إدارات الأمن في المحافظة، فهناك تجاوزات خطيرة يرتكبها بعض الضباط”.

وتروي المحامية اليمنية مثالاً عن اختلال المنظومة الأمنية قائلة: “بعد أسبوع واحد فقط من حضور مجموعة من فتيات المهمشين جلسات توعية حول التحرش والاغتصاب، تعرضت إحداهن للتحرش في حافلة نقل عام، وعندما حاولت الإبلاغ عند نقطة تفتيش، أوقف الجنود المعتدي بالفعل واقتادوه إلى قسم الشرطة، لكن المفارقة أن الضباط هناك أطلقوا سراحه بعد أن ابتزوه مالياً مقابل لتجنيبهب الحبس”.

أما الحادثة الأخرى  التي ترويها نفس المتحدثة، فهي أكثر فداحة.، فتاة من المهمشين قصدت مقر الأمن لتقديم بلاغ رسمي ضد رجل تحرش بها، لتجد نفسها ضحية تحرش جديد، هذه المرة من مدير الأمن نفسه داخل مكتبه.

المأساة تتضاعف داخل مخيمات النزوح، حيث تقبع نساء المهمشين في ظروف تهدد حياتهن يوميا.،  تقرير صادر عن منظمة “حقوق الأقليات الدولية” أشار إلى أن بعض النازحات فضّلن العودة إلى مناطق الحرب رغم القصف، معتبرات أن العيش تحت القنابل أهون من الذل في المخيمات، فغياب الوثائق الرسمية يحرمهن من المساعدات، ويفتح الباب أمام عنف اجتماعي وجنسي مستمر.

“المساعدات نادراً ما تصل إلينا”، تقول سماح: “يعتبروننا غرباء لا ننتمي للمخيم، ونحن لا نملك ثمن الدقيق. لماذا يُقصوننا من أجل لون بشرتنا؟”.

ولادات عسيرة وغياب الوثائق: مأساة النساء المهمشات في الخيام

“نحن نعتمد على أنفسنا بكل شيء”، تحكي سماح، مضيفة أن “المرأة تحتاج الرعاية الدائمة، خصوصاً في فترات الحمل والولادة.، لكن، لا نحصل على رعاية طبية مرافقة، وعادة ما نعمل حتى الأشهر الأخيرة من فترة الحمل، وهو أمر صعب جداً”.

وتتابع:  “في حالات كثيرة، تحصل وفيات بين الأمهات، ولا نجد حلاً سوى التسليم بالأمر الواقع.، المستشفيات غالباً ما ترفض دخولنا للولادة بسبب وضعنا المادي، أو عدم توفرنا على وثائق ثبوتية، مما يجبرنا على الولادة في الخيام، في ظروف عسيرة ودون أي مقومات”.

سماح، تضيف في حديثها لــ “مرايانا”: وتضيف”غالباً ما نلد أطفالاً متوفين بسبب طبيعة الأعمال الشاقة التي نمارسها أو بسبب انعدام الرعاية الطبية”.حتى في حال ولد الطفل سليماً، لا ” يستطيع الأهل استخراج وثائق تثبت مكان الولادة وتاريخها، كونهم نازحين وغير مستقرين، كما أن غياب وثائق الآباء يحرم الأطفال من الاعتراف بنسبهم”. .”

نساء المهمشين في اليمن يكافحن كل يوم من أجل البقاء والكرامة، وسط عنف مزدوج؛ عنف الحرب وغياب الحماية القانونية والاجتماعية.التاريخ الطويل من التهميش والعنصرية جعل حياتهن سجينة الظل، يتنقلن بين المخيمات والأسواق بلا سند، ويُحرمن من أبسط حقوقهن الإنسانية، قصصهن اليومية تكشف هشاشة المؤسسات، وتطرح السؤال الأكبر: هل ستتحمل الدولة مسؤوليتها، وتضمن لهن الحماية والاعتراف والعدالة؟ أم سيبقى صمت المجتمع والتقاعس الرسمي شاهداً على استمرار الظلم، وتظل حياتهن مرسومة على هامش التاريخ اليمني؟

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *