مغاربة أبدعوا: تاريخ حافل بكبار الشعراء، ضمنهم شاعر الحمراء 2|2
في هذا الجزء الثاني، سنخصص الحديث لثلة من الشعراء، ازدان بهم تاريخ الأدب بالمغرب وأبدعوا في نظم الأشعار الموزونة، وترصيع التعابير بالكلمات الأخاذة والصور الساحرة التي يحق للقارئ المغربي أن يطلع عليها، من بينهم شاعر الحمراء وغيرهم من كبار الشعراء
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن جزء يسير من كبار علماء المغرب، الذين تركوا أثرا عظيما في شتى العلوم، داخل بلدهم وخارجه كالمشرق وأوربا.
في هذا الجزء، سنخصص الحديث لثلة من الشعراء، ازدان بهم تاريخ الأدب بالمغرب، وأبدعوا في نظم الأشعار الموزونة، وترصيع التعابير بالكلمات الأخاذة والصور الساحرة التي يحق للقارئ المغربي أن يطلع عليها ويكتشف مكنوناتها، ويمتع سمعه وفؤاده بالإصغاء إلى موسيقاها والتأمل في مجازاتها، ويسبح في بحر خيالاتها.
ابن حبوس الفاسي
عاش هذا الشاعر في العصر الذهبي للحضارة المغربية، فهو من مخضرمي الدولتين المرابطية والموحدية. ولد بفاس وطلب العلم، إلا أنه اشتهر بالشعر فقربه خليفة الموحدين عبد المؤمن وابنه يوسف وأجزلا له العطاء. قام بعدة أسفار وترك ديوانا ضخما. كانت طريقته في الشعر على طريقة محمد بن هانئ في قصد الألفاظ الرائعة والقعاقع المهولة.. تناول أغراض عديدة في شعره غلب عليها المدح. قال عنه الصفدي: بديع النظم سائر القول.
من شعره مادحا عبد المؤمن:
ألا أيهذا البحر جاورك البحر***وخيم في أرجائك النفع والضر
وجاش على أمواهك العقل والحجى***وفاض على أعطافك النهي والأمر
وسال عليك البر خيلا كماتها***إذا حاولت غزوا، فقد وجب النصر
الجراوي
هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي، شاعر موحدي سكن مراكش وأصله من تادلة. له ديوان شعر وصفوة الأدب ونخبة كلام العرب المعروف بالحماسة المغربية. مدحه فخم رائع، وهجاؤه لاذع لا يخلو من طرافة. توفي سنة 609هـ.
قال مادحا المنصور:
قضى لك الله بالتأييد والظفر***وبالسعادة في ورد وفي صدر
آثرت في نصرة الدين المسير على***طيب المقام وبعت النوم بالسهر
نار من الفتنة العمياء أطفأها***سعد الإمام وحد الصارم الذكر
الخطابي
أبو عمرو ميمون بن علي المعروف بابن خبازة، ولد بفاس وتوفي بالرباط سنة 637هـ. كان سريع البديهة، شاعرا ناثرا. له شعر كثير لكنه لم يجمع في ديوان، فضاع أكثره، منه قصيدته اليائية في المديح النبوي، والقصيدة الرائية في رثاء ابن أبي بكر بن الجد. ومن يائيته نقتطف هذه الأبيات:
حقيق علينا أن نجيب المعاليا***لنفني في مدح الحبيب المعانيا
ونجمع أشتات الأعاريض حسبة***ونحشد في ذات الإله القوافيا
ونقتاد للأشعار كل كتيبة***لنصر الهدى والدين تردي الأعاديا
فألسن أرباب البيان صوارم***مضاربها تنسي السيوف المواضيا
لنطلع من أمداح أحمد أنجما***تلوح فتجلو من سناه الدياجيا
مالك بن المرحل
أبو الحكم شاعر مفلق من أهل سبتة، عاش بين سنتي 604 و699هـ. أصبح شاعر الدولة المرينية وسلطانها يعقوب المنصور المريني. له ديوان شعر لم يصلنا منه إلا القليل. شعره مليء بالحماسة والمدح والنسيب والحكمة وحتى الفكاهة. قيل عنه: إنه أطيع شعراء المغرب أسلوبا، وأرشقهم لفظا، وأبلغهم معنى.
نختار من شعره الأبيات التالية وهي من قصيدة نظمها بمناسبة نجدة المغرب لبني الأحمر ملوك غرناطة.
شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي***أنا أجبنا صرخة المستنجد
لما دعا الداعي وردد معلنا***قمنا لنصرته ولم نتردد
نسري له بأسنة قد جرّدت***من عضبها، والصبح لم يتجرد
ابن شبرين (674-747ه)
هو أبو بكر محمد بن أحمد. شاعر مريني ولد بسبتة وطلب العلم في أماكن عدة. من أشهر تلاميذه أديب الأندلس لسان الدين بن الخطيب. ترك ديوان شعر ضخم لم يصلنا منه إلا القليل.
قال ابن شبرين راثيا سلطان غرناطة:
استقلا ودعاني***طائفا بين المغاني
وانعما بالصبر إني***لا أرى ما ترياني
قضي الأمر الذي في***شأنه تستفتيان
مات يوم السلم قعصا***مدرة الحرب العوان
العزفي
أبو العباس أحمد بن أبي طالب، من آل العزفي الذين تولوا رئاسة سبتة بعد ضعف الموحدين. كانت وفاته سنة 707هـ.
شعره شعر النسيب والخمريات، وهو شعر رقيق، حافل بالابتكار التصويري، والعاطفة الجياشة. مع أناقة ظاهرة تنم عن ذوق رفيع، وإن شابها أحيانا تكلف ينطبع بفنون البديع. يسحرك شعره بموسيقاه العذبة وانسيابه الخمري، الذي يجري في شرايين النفس مجرى الدم في العروق.
من شعره في التغزل:
وعدتني أن تزور يا أملي***فلم أزل للطريق مرتقبا
حتى إذا الشمس للغروب دنت***وصيرت من لُجينها ذهبا
أنست بالبدر منه حين بدا***لأنه لو ظهرت لاحتجبا
الجزنائي
أبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي الفاسي، ولد ونشأ بفاس. تتلمذ على يد عدد من شيوخها في مقدمتهم ابن آجروم. دخل تونس وكان كاتبا في ديوان الإنشاء لدى السلطان أبي الحسن المريني.
كان الجزنائي من أساطين العلم في عصره، برع في الطب والكيمياء، وتضلع من فنون الأدب و الشعر. توفي سنة 749هـ.
شعره شعر الوجدان الصافي والرقة وعلو الذوق، وهو شعر الموسيقى الحالمة. تغزّله يفيض بالعاطفة المرهفة، والأناقة المترفة.
قال راثيا جاريته صبح:
يا قبر صبح حل ف***يك لمهجتي أسنى الأماني
وغدوت بعد عيانها***أشهى البقاع إلى العيان
أخشى المنية، إنها***تُنئي مكانك عن مكاني
كم بين مقبور بفا***س وقابر بالقيروان
الفشتالي
هو أبو فارس عبد العزيز بن محمد. ولد بفاس، وبرع في فنون الأدب والتاريخ والسياسة، فقربه المنصور الذهبي، وولّاه رئاسة الإنشاء ببلاطه. له عدة مؤلفات في الأدب و التاريخ. توفي سنة 1031ه\1621م.
شعره شعر القريحة الفياضة، فهو من كبار شعراء الدولة السعدية، ومعظم أشعاره مدح للمنصور الذهبي وتخليد لمآثره العمرانية، وفي مقدمتها قصر البديع. و من تلك الأشعار نونيته الشهيرة، التي نقتطف منها ما يلي:
قف العيس واسأل ربعهم أيّةً رحلوا***أ للجزع ساروا مدلجين أم البان
وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى***ملاعب آرام هناك وغزلان
وأين استقلوا، هل بهضب تهامة***أناخوا المطايا أم على كثب نعمان
إذا اقتسم المداح فضل فخارهم***فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان
إمام له في جبهة الدهر ميسم***ومن عزه في مفرق الملك تاجان
سما فوق هامات النجوم بهمة***يحوم بها فوق السماوات نسران
وأطلع في أفق المعالي خلافة***عليها وشاح من عُلاه وسمطان
الهوزالي
أبو عبد الله محمد بن علي الملقب بالنابغة. الشاعر الرسمي للدولة السعدية، قربه أحمد المنصور وأجزل له العطاء، فمدحه وتغنى بمآثره وحروبه. توفي سنة 1012ه\1604م.
شعره شعر الصخب والفخامة والأبهة فيه متانة تركيب وروعة أداء وخلابة نسج.
وهذان البيتان أصدق مثال على ذلك:
ألمت وقد ألوى على وصلها الهجر***كما افتر إثر الليل عن ثغره الفجر
وجلّى، وقد لاحت دجى الليل، وجهها***كما نض سجف الليل من وجهه البدر
اليوسي
أبو علي الحسن بن مسعود، علامة عصره علما وأدبا، عاش في أوج العصر العلوى، وعاصر السلطان المولى إسماعيل، وكانت له معه أخبار تجري مجرى النصح والتوجيه. ترك وراءه عدة آثار علمية ذات قيمة كبيرة، نذكر منها: القانون في ابتداء العلوم، وزهر الأكم في الأمثال والحكم، والمحاضرات في الأدب.
شعره شعر فخر وحكمة ومدح ورثاء كرائيته في رثاء زاوية الدلاء، التي جاء فيها:
أُكلف جفن العين أن ينثر الدّرا***فيأبى ويعتاض العقيق بها جمرا
و أسأله أن يكتم الوجد ساعة***فيفشي و إن اللوم آونة أغرى
و كانت سروح الهم عني عوازبا***و بعد النوى أضحت مراتعها الصدرا
ليالي كان البيْن عن جيرةِ الحمى***صَدودا ونظم الشمل لم يستحل نثرا
و كانت مدامات الوصال مدامة***على القوم صرفا لا مزيجا ولا نزرا
فبينا ليالي الوصل بيض وروضه***بفيض الندى كانت مرابعه خضرا
عدت غدوة أيدي الحوادث فاختلت***خلاها، فعادت بعد نضرتها غبرا
و أبدلن مأنوس الديار و أهلها***بوحش، وحولن الأهيل بها قفرا
فلا جفن إلا وهو مغض على القذى***ولا عين إلا من نجيع الشجا حمرا
شاعر الحمراء (1900-1955م)
أمر الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1968م بجمع شعره وطبعه.
إنه محمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء، ولد بمراكش مدينة التاريخ والحضارة، حيث حفظ القرآن في صغره وكثيرا من المتون العلمية، وتابع دراسته في ابن يوسف والقرويين. وعلى عكس رغبة والده، الذي كان متمسكا بأن يجعل منه فقيها وعالما من علماء الشريعة، اتجه ابن إبراهيم إلى رياض الأدب يقطف منها ما شاء بنهم، ثم ما لبث أن غاص في بحار الشعر، وما تقتضيه من خلع للعذار، وانغماس في الملذات، وتطلع للمدح، واهتياج للهجاء.
شعره سلس الألفاظ، عذب المعاني، خال من الركاكة، يسير على منهاج وقوالب الشعر العربي، مع الاحتفاظ بالصبغة المغربية. حج سنة 1935م ومدح عبد العزيز بن سعود، فخلع عليه وأثابه. وأثناء عودته، مر بمصر وألقى بها محاضرة عن ابن عباد وابن تاشفين، وانتقد تحيز أمير الشعراء في مسرحية “أميرة الاندلس” لابن عباد وتحامله على أمير المسلمين، منقذ الأندلس وبطل الزلاقة. كما ألقى قصيدة كلها اعتداد بالذات جاء فيها:
أتاك كما تأتي اللآلئ في العقد***نوابغ فاس، كلُّ ندّ إلى ندّ
نعم إن شوقي وهو أكبر شاعر***تنكر عنه الليث في داخل اللبد
تأمل شوقي عن قريب فما اهتدى***و ما ضر شوقي لو تأمل عن بعد
أأحمد شوقي للقوافي رجالها***كأنت و للتاريخ ذو الأخذ والرد
وهي قصيدة تظهر فيها الشخصية المغربية الفذة، المعتزة بوطنها وحضارتها، المدافعة عن هويتها من كل همز أو لمز، وهذا ليس بالشيء الغريب على جيل اطلع حق الاطلاع على تاريخه وأدبه، وروي من روح الوطنية حتى انطبع بطابعها، فصار خير سفير للثقافة المغربية في الآفاق.