الفضاء العمومي المغربي: سجالات سوسيولوجية وفلسفية – التدين والحداثة، القيم، التحول الرقمي - Marayana - مرايانا
×
×

الفضاء العمومي المغربي: سجالات سوسيولوجية وفلسفية – التدين والحداثة، القيم، التحول الرقمي

بين فضاء واقعي وآخر افتراضي، يبدو واضحا أن تحولات قيمية بدأت تفرض ذاتها على الفضاء العمومي، وبدت تمظهراتها واضحة خلال حركات اجتماعية أصبحت تُطالب بإرساء الحريات الفردية، سواء على مستوى النصوص القانونية أو على مستوى الممارسات.
تحولات قيمية يعرفها المجتمع المغربي، تجعلنا أمام تناقض بين نمط تقليدي مازال يقاوم في الفضاء العام على مستويات متعددة، وبين نمط جديد يريد أن يرسي نفسه داخل المجتمع.

الفضاء العمومي مساحة يفترض أنها مُشتركة، أنها فضاء للتفكير وللسجال الفكري والسياسي…

يُفترض أنها هكذا يجب أن تكون، غير أن سجالات التديُّن والنقاش المذهبي والبحث عن الأصلح والأنسب، يغيب كثيراً من الآراء داخل هذا الفضاء.

يحضر الدين في الفضاء العمومي كما تحضُر قضايا عديدة: المجتمع والأسرة وقضايا السياسة. غير أنَّ النقاش الديني أحيانا يذهب في اتجاه السجال بدلَ النقاش، واستحضار الرؤى والآراء والتصورات المختلفة ليسَ بغرض الإقناع والاختلاف، وإنما للمقارعة الفكرية التي ليس هدفها البحث عن المشترك الإنساني وسطَ الفضاء العمومي المغربي.

كيف يحضر الدين في الفضاء العمومي؟ وهل لا زال الفضاء يستوعب هذا النقاش في ظل التحول الرقمي الذي يقودُ للإنسان الواحد بدلَ الجماعة؟ وكيف نقرأ التحول الحاصل في الفضاء إذا ما جاز الربط بين القيم والتدين في الفضاء العمومي؟

الدين والدولة في الفضاء العام

محمد بلمقدم، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، يقول في حديث لمرايانا بأنه “لا يُمكن إغفال حضور الدين في الفضاء العمومي. هذا الحضور المستمر الذي لم يعرف القطيعة مع الدين، وبالتالي، في المغرب، لم يختفِ الدين، فالجديد هو ظهور الدولة”.

حسب بلمقدم، فحضور وفهم الدين اليوم في الفضاء العمومي المغربي، ينبغي أن يُوازيه حضور الدولة بالمعنى الحديث لدولة المؤسسات، دولة تشرف على تكوين المواطن وتربيته ويكفي المقارنة بين الأمس لنقفَ على هذا الحضور.

يشرح بلمقدم ثنائية الدين والدولة في الفضاء العام، مشيرا إلى أنه من الضروري الانتباه إلى أن الدولة هي الساهر على المجال الديني، فلا يُمكن أن نَعْتَدَّ اليوم، داخل الفضاء، بقراءات للدين كانت في القرن الثاني والثالث وغيره، في زمن لم تكن فيه الدولة بهذا الشكل.

وفق المتحدث، فيبدو أننا بحاجة لتربية المواطن تربية مواطناتية، فضلا عن فهم التَّديُّن انطلاقا من حاجياتنا الآن، لأن للإنسان ضوابط: ضابط خارجي وهو القانون، وضابط داخلي وهو الأخلاق.

في السابق، كان الفقهاء يفكرون داخل نموذج معرفي منسجم مع ما أنتجوه، فكانوا مبدعين فيما أنتجوا. الآن، نحن مطالبون بالإبداع في وقتنا، عوض اجترار ما قاله الآخرون في زمنهم. فالفقهاء السابقون لم يكونوا على دراية بالمعارف المعاصرة التي تُساعد الناس على فهم النص الديني، وتساعد على الاستفادة منه خلال تعاملهم داخل الفضاء العمومي.

في هذا الصدد، يقول بلمقدم إن النقاش داخل الفضاء العام يجب ينطلق من أرضية واحدة لا أحد فيها يمتلك الحقيقة. قد يكون لدينا مشترك غير أن زاوية النظر تختلف، وبالتالي هناك حقائق متعددة انطلاقا من الموقع الذي نشغله.

حسب المتحدث، فإن غالبية المغاربة مسلمين، ولكن درجات التديُّن والقناعات تختلف. لذلك، من الجيد الاهتمام بالإنسان. يقول بلمقدم: “نريدُ إنساناً حراً معتزاً بقيمته، بكرامته، بوطنه، بمجتمعه، بتراثه، بذاكرته وهويته”.

تديُّن كوني

بلمقدم، دعا في حديثه لمرايانا، إلى فتح الفضاء العمومي للنقاش في الخطاب الديني وتجنب التضييق. يجب القبول بكل الطروحات، وإلغاء التعصب المذهبي، فذلك كان في زمن الانتماء الديني والسياسي.

يشير الباحث في الفلسفة إلى ضرورة النظر للانتماء الوطني أولاً، فيما الهوية الدينية تأتي بعد ذلك. آنذاك يمكن فتح الفضاءات، يقول المتحدث: “لو فتحنا الفضاءات المتعددة سنجد كثير من الاجتهادات من داخل التراث ومن ثم ضمان حرية التعبير”.

يعتقد بلمقدم أن الخطاب العابر للحدود مفيد اليوم، لكن نحن الآن بحاجة لخطاب موجه للمغرب، لأن لدينا شروطنا، ظروفنا، إكراهاتنا، تحدياتنا وتراثنا أيضا. فالتراث المغربي ليس هو المشرقي، فلم يكن المغرب أرض للسجالات اللاهوتية والصراعات الكلامية كما كان في المشرق.

سؤال القيم بين الافتراضي والواقع

هل نحن إزاء تحولات قيمية أثرت على الفضاء العمومي المغربي اليوم؟

يجيب زكرياء أكضيض، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، مشيرا إلى أن هناك تحولات قيمية يعرفها المجتمع المغربي، تجعلنا أمام تناقض بين نمط تقليدي مازال يقاوم حضوره في الفضاء العام على مستويات متعددة، وبين نمط جديد يريد أن يرسي نفسه داخل المجتمع المغربي.

حسب ما أورده أكضيض في تصريح لمرايانا، فإن التحوُّلات القيمية تفرض ذاتها على الفضاء العمومي، رغم الإيديولوجيات والتنشئة الاجتماعية، وقد بدت تمظهراتها واضحة خلال حركات اجتماعية أصبحت تُطالب بإرساء الحريات الفردية، سواء على مستوى النصوص القانونية أو على مستوى الممارسات.

يربط الباحث في علم الاجتماع بين فضاءين، فضاء عمومي واقعي، وآخر افتراضي أملته شروط التحوُّل الرقمي والانفتاح على فضاءات التواصل.

يقول أكضيض: “خلال حديثنا عن الفضاء العام، يتجه الحديث نحو فضاءات أخرى صارت محورية، وهي الفضاءات الرقمية التي صارت تلعب أدوار هامة، ويُلاحظ أن الفرد داخل هاته الفضاءات، أصبح يعبر بشكل علني عن هاته التحولات”.

حسب الباحث، فالفرد داخل الفضاء الرقمي أصبح قادرا على إثبات ذاته بدل الفضاء العام الواقعي، حيث كان يصعب على الفرد الحركة إلا داخل جماعة. وما نلاحظ، هو تحول الأفراد داخل الفضاء الافتراضي، واعتمادهم القنوات التواصلية الافتراضية للتعبير عن الآراء والمعتقدات.

يؤكد أكضيض أن التحول نحو فضاء افتراضي رقمي ساهم في بروز الفرد الذي كان يَحْتكم لجماعة معينة، وقد بدأ يأخذ مكانته المحورية وأصبحت مبادراته وآراؤه منطلقاً لتشكيل مبادرات جماعية بمختلف أنواعها.

الفضاء الرقمي: متاهات التحول

يقول أكضيض: “عندما نتحدث عن التحولات القيمية، لا يمكن القفز على وضع الأسرة. حيث نلاحظ أن هاته الأخيرة، عرفت تحولات قادتها للتحول نحو أسر لم تعُد ممتدة بالشكل الذي كانت عليه، لتصبح مُقلصة، وهو ما يفيد أن الأفراد داخل الأسرة يميلون لاختيارات فردية سواء على مستوى الزواج أو غيره من القضايا الأسرية”.

يشير الباحث إلى أن الاستمرار في تجليات التحول بين الفضاء الواقعي والرقمي يقودنا إلى التحولات الطارئة على الاحتجاج. فالمُتابع لهذا المعطى، يجد بأنه من الصعب إيجاد رابط بين الاحتجاجات المعاصرة والكلاسيكية، لأنها فقدت روابطها مع التنظيمات، فأصبحنا أمام احتجاج خارج التنظيمات الكلاسيكية.

حسب أكضيض، فالمؤسسات، بمعناها التقليدي، لم تعد لها سلطة موجهة لسلوك الفرد، بل أصبحنا أمام أفراد يميلون إلى خلق مسافة معها، ولا يمكن القول بأنهم يلغون بشكل كلي ومطلق دور هاته المؤسسات، بل يتحركون بعيدا عن سلطتها، وبعيدا عن سلطة الأسرة والحزب.

كثيرة هي النقاشات التي ارتبطت بالفضاء العام، كما أشار بلمقدم إلى أن النقاش الديني يأخذ حيزا مهما، غير أنه يجب الاتجاه إلى الإنسان أولاً ثم المسلم ثانيا، وهذا يكون أكثر انفتاحا ويتيح أفقا للنقاش الحر والتديُّن الحر.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *