الخؤولة والسياسة: حين يصبح نسب الأم أقوى من نسب الأب في مجتمع ذكوري
منذ ما قبل الإسلام، ومرورا بنشأة الدولة الإسلامية وبعدها ما تلاحق من خلافات ودول… ظل الانتساب للأم سندا رئيسيا في استتباب الحكم والحفاظ على الدولة والسلطة.
حتى في حكاية الدولة المغربية، على اختلاف السلالات الحاكمة، ظل نسب الأم، واحدا من أهم عناوين الحكم.
يسود في المجتمعات الأبوية، ولو ظاهريا، النسب الأبوي، وهذا ما يجعل العصبية بمفهومها الخلدوني، تنبني على العمومة أو القرابة من جهة الأب، لا الخؤولة وهي القرابة من جهة الأم. وعلى أساس تلك العصبية تكون قوة المجتمع المادية والمعنوية، من شوكة (جند) وجاه وحسب وشرف… وإذا واتت الظروف عصبية من العصبيات، وبلغت مداها في التعاضد والنفوذ، قد تتحول إلى دولة لها سلطانها ومؤسساتها ونظامها، في مجال ترابي يضيق أو يتسع تبعا لقوة العصبية في أصلها.
و إذا تمعنا في تواريخ المجتمعات الأبوية القديمة، ومن بينها المجتمع العربي، لن نجد بالتأكيد عناء في اقتناص الاستثناء، الذي بتكراره يرقى إلى مستوى القاعدة، فوسط كل ذلك الركام المفعم بالذكورة والأبوة والعمومة المتعالية والسائدة، بين القبائل خلال العصر الجاهلي، طفت إلى السطح جذور النسب الأنثوي، في أكثر من مناسبة، بل حتى الجانب المقدس من الحياة العربية، طغت عليه الأنثوية، حيث كانت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، إلاهات معبودة عند العرب، دون غضاضة أو استنكاف أو استهجان أنها إناث…
كان منتهى الشرف عند العرب أن يكون المرء مُعِمًّا مُخوِلاً، أي شريف الأب والأم معا. وفي هذا إشارة قوية إلى مكانة نسب الأم، الأم التي لم يخجل أبدا عدد من قبائل العرب من الانتساب إليها دون الأب، ولم يحفظ أن عُدّ ذلك منقصة في حقها، تستحق أن تهجى بها بسلاح دعائي دعي ديوان العرب.
لقد حفظت أخبار العرب وأيامهم عدة قبائل مشهورة، نسبت إلى أمهاتها، منها بجيلة، وهم بنو أنمار من زوجته بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، وجديلة، وهم بنو فهم وبنو الحارث (عدوان) ابني عمرو بن قيس عيلان. نسبا إلى أمهما جديلة بنت مدركة، وأكثر من هؤلاء بنو إلياس بن مضر ومنهم قريش، اشتهروا جميعا بأمهم خندف وهي ليلى بنت حلوان القضاعية.
نعم سجل التاريخ تقديم العرب، في ذلك الزمان الغابر، آباءهم وأعمامهم على أخوالهم، وهذا أمر طبيعي ومألوف في ذلك الوقت، يجري مجرى العصبية، ولكنه سجل أيضا وقائع أخرى كان فيها للخؤولة المكانة العليا، ولاسيما تلك الوقائع، التي يلتقى فيها النسب بالسياسة، فهذا الحارث بن عمرو الكندي (528-488م) ملك نجدا وريف العراق بمعونة أخواله البكريين، وهذا حفيده امرؤ القيس، الملك الضليل و الشاعر صاحب المعلقة، استعان بأخواله التغلبيين على طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه… بل يمكننا أن نتمادى قليلا دون مبالغة فجة، فنقول إن نشأة الدولة الإسلامية الأولى، دولة رسول الإسلام محمد مدينة لهذه الخؤولة ولو جزئيا، فلا ينبغي أن ننسى أن الأنصار، وهم قبائل المدينة (يثرب) من الأوس والخزرج، الذين آووا ونصروا، كانوا أخوال جده، عبد المطلب بن هاشم، فأمه سلمى بنت عمرو النجارية كانت امرأة من الخزرج، وأن بني زهرة أخواله المباشرين، رهط أمه آمنة بنت وهب، كان لهم أثر طيب في غزوة بدر الكبرى، فعلى الرغم من عدم إسلامهم، فإنهم اختاروا الرجوع إلى مكة قبل المعركة، تاركين قريشا ومصيرها المعروف.
ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية، ونشأ الحكم الوراثي مع بني أمية، زادت الحاجة إلى الخؤولة، وتوظيفها في الميدان السياسي، وهذا لم يكن ليغيب عن دهاء معاوية بن أبي سفيان (41-60ه) الذي اختار قبيلة كلب، أقوى قبائل الشام وأكثرها ولاء، ليكونوا أخوال ابنه يزيد. و لاشك أن يزيد بن معاوية (60-64ه) وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية، انتفع بخؤولته تلك أشد الانتفاع، فقد منحوا ملكه الثبات والاستقرار والصمود، في وقت عصيب تميز بكثرة المنافسين على الخلافة، وظهور الفتنة الثانية. ولولا أنه افتقد لحلم ودهاء أبيه لكان له شأن آخر في التاريخ مع تلك الخؤولة.
وعندما بدأت دولة الأمويين تتهاوى، تحت ضربات العباسيين، لم يكن الإمام الهاشمي حينها سوى أبو العباس السفاح، الذي اشتهر أيضا بابن الحارثية، نسبة إلى أمه ريطة بنت عبيد الله، من بني الحارث بن كعب إحدى أشرف قبائل اليمن، التي كانت نصيرا للعباسيين إلى جانب الموالي من الفرس. في حربهم ضد الأمويين.
وتبعا لقوانين التطور في التاريخ، وبحكم رسوخ التمدن، والانتقال من خشونة وسذاجة البداوة، إلى رونق وحلاوة الحضارة، ومع بلوغ الترف مداه في قصور بني العباس، كان من البديهي أن تنقلب الخؤولة بشكل جذري إلى غير العرب من فرس وأتراك وغيرهم… فتلك القصور كانت مليئة بالجواري الفارسيات والروميات والتركيات، اللائي استطاع بعضهن إنجاب أمير أو أكثر، صار فيما بعد خليفة بدعم من أخواله حسب العادة.
يحضرنا هنا للاستشهاد، الخليفة المأمون بن الرشيد (218-198ه)، فعلى الرغم من وفاة أمه مراجل الفارسية في نفاسها به، فإنها تركت له قرابة قوية من جند الفرس المخلصين، الذين التفوا حوله بخراسان وأعانوه على أخيه الأمين بعدما خلعه من ولاية العهد. و بقدر ما كان الخذلان حليف الأمين في هذه الحرب مع أخيه، أنه هاشمي صرف: هاشمي الأب والأم، بقدر ما رافق الظفر والنصر المأمون أن أمه فارسية وأخواله من الفرس سكان خراسان.
ولما توفي المأمون وخلفه أخوه المعتصم (218-227ه)، ولعله ضاق ذرعا بنفوذ الفرس وهيمنتهم على الجيش والإدارة، لم يجد أيضا للاستبدال بهم، سوى أخواله من الترك، إذ كانت أمه “ماردة” محظية الرشيد، من أصل تركي، فطفق يستقدم فتيان الأتراك من بلاد ما وراء النهر(آسيا الوسطى) حتى كون منهم جيشا قويا، أشبه بالجيوش النظامية المعزولة عن المجتمع، الموالية للحاكم. وبنى لهم وله عاصمة جديدة بعيدا عن بغداد، وهي “سر من رأى” (سامراء). فطبعت الدولة العباسية منذ عهده بالطابع التركي، الذي استمر لعقود، وترك آثارا عميقة في المجتمع الإسلامي، تجاوزت ما هو سياسي وعسكري، إلى الديني، والثقافي، والاقتصادي..
هذا عن المشرق، فماذا عن الخؤولة السياسة بالمغرب؟
مع مطالعة تاريخ أول دولة إسلامية بالمغرب الأقصى، مستقلة عن الخلافة بالمشرق، ألا وهي الدولة الإدريسية، تبرز للعيان أثار الخؤولة، فإدريس بن إدريس (188- 213ه) الملقب بالأزهر، ما كان وهو فرد وحيد من آل البيت، حدث السن، تحيط به المكائد من كل الجهات… ليتمكن من توطيد دعائم الدولة الإدريسية، ويمد نفوذها، دون صلته بأخواله الأمازيغ، ذلك أن أمه كنزة بنت إسحاق تنحدر من قبيلة أوربة، أقوى وأشد القبائل الأمازيغية، التي ناصرته والتفت حوله، كما التفت حول أبيه من قبله وبايعته.
وفي الدولة العلوية، التي أدت وفاة سلطانها العظيم المولى إسماعيل بن الشريف سنة 1727م بعد أكثر من خمسين سنة قضاها في الحكم، إلى دخولها في الفترة أو أزمة العرش، ثلاثين سنة، تصارع فيها الإخوة حول السلطة، وتدخل فيها جيش البخاري أو جيش العبيد بشكل صارخ في السياسة. كان للخؤولة مكانتها ووظيفتها، التي بدت جلية مع السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل (1729-1757م)، فأمه خناثة بنت بكار المغفرية من الودايا، كان لها من الحكمة والعلم والثروة الشيء الكثير، لكن ما أفاد ابنها أكثر، وهو محاط بدسائس الإخوة من جهة، وجبروت جيش العبيد من جهة أخرى، هو انتسابها إلى الودايا إحدى قبائل الجيش القوية آنذاك، ففي مدة حكمه تلك، بويع وعزل أكثر من مرة حتى بلغ عدد بيعاته سبعا، استطاع خلالها أن ينجو من القتل والحبس أكثر من مرة بفضل حنكته ورباطة جأشه، وكذا بفضل الدعم والحماية التي كان يجدها في أخواله من الودايا. وهكذا تمكن من توريث الملك بسهولة لابنه السلطان الشهير محمد بن عبد الله (1757-1790م) الشيء الذي لم يفلح فيه كل أخوته، حتى أولئك الذين كانت أمهم السلطانة زيدانة كأحمد الذهبي وغيره.