إناث كناوة: في البدء… كان الكمبري ذكرا 1/2
كناوة، ذلك الفن المُقد الذي كلما وجلت عوالمه إلا وصادفت مسالك كثيرة. تتأرجح فيه المرأة أحياناً بين الدور المحوري والدور الخافت. صحيح أن رحلة حمل الكمبري لم تبدأ إلا مؤخراً, لكن في العوالم الروحية كانت المرأة صلة وصل بين المعلم ومن يرقصن على إيقاعات الكمبري.
للنساء في الــ “تاكناويت” نصيب… كناوة؛ الكمبري، القراقب والطبل… لم يعودوا حكرا على الرجال كما كانوا. صارت تقتسمهم المرأة مع الرجل. وبرزت أسماء كثيرة في كناوة أثَّثَت لمشهد جديد، يحمل عنوان كناوة بصيغة المؤنث. قد تكون عادة قديمة جديدة: إلا أنها وجدت صَداها مع أجيالٍ شبابية اليوم.
قبل الخوض في حديث اليوم، لنعد إلى الأمس. كان دور المرأة في كناوة يقتصر على حضورها في الليالي الروحية أو ما تعرف في كناوة بـ “الدْرْدْبَة”. عادة ما كانت المرأة تلعب دور العريفة أو الجدابة أو المقدمة أو التي تصطحب معها مساعدة أو اثنتين، إلا أن هذا الدور كان ثانويا، حيث كنت المقدمة تلعب دور الوسيطة بين لْمْعْلْمْ وطالبات وطالبي الشفاء.
حضور المرأة، على الرغم من كونه كان ثانويا في الفن الكناوي، إلا أنه كان يتم من خلال وجودها التاريخي في الطوائف والمعتقدات الكناوية، كما تحضر في الطقوس، في التسميات التي يتغنى بها كناوة: لالة ميرة، لالة عيشة، الساندية، الكناوية، والأمثلة الكثيرة.
كناوة ذكورية ضد النساء؟
هل الفن الكناوي، حكر على الرجل فقط، أم أنَّ دور المرأة بقيَّ ثانويا؟ سؤال تُجيب عنه أميمة مرشاد، وهي باحثة ومهتمة بالتراث الكناوي.
أميمة مرشاد، تعتبر في حديث لمرايانا، أنه في وقت سابق، كان الفن الكناوي حكراً على الرجل، فيما يبقى دور المرأة ثانويا، مُتمثلا في دور المْقْدْمَة، التي تقوم بدور الوسيطة بين لمعلم والشخص المريض الذي يرجو الشفاء. لم تكن حينها تحمل الكمبري أو ترفع الدعاء أو الفاتحة وغيرها.
من جهته، يقول أنس لخصاصي، وهو معلم كناوي من الدار البيضاء، خلال حديث لمرايانا، إن المرأة في السابق كان دورها محصورا على الخَدَمْ والمْقْدْمَاتْ، فيما يبقى حمل الطَّبْلْ أو الكْمْبْري أو القْراقْبْ حِكرا على الرجال فقط. الآن، هناك واقع جديد، حسب لخصاصي، فقد حملت المرأة الكمبري، وظهرت مجموعات كناوية تقودها نساء، كأسماء الحمزاوي التي أوصلت التكناويت للقارات الخمس.
حضور روحي
من جهته، يورد لمعلم عبد السلام عليكان، المدير الفني لمهجران كناوة، ورئيس “جمعية يرما كناوة” في حديث لمرايانا، أن كناوة، منذ بداياتها، ارتبطت بالنساء، حيث أنه كانت هناك مهن مرتبطة بهن، من قبيل المقدمات والطلاعات والخدمانات، وكانت النساء حينها يقمن بدور خدمة لمعلمين، كما كانت هناك مجموعة بنات كناوة التي كانت تغني إلى جانب فرق رجالية. الاختلاف الحاصل هو أن الكمبري، الذي كان حكرا على الرجال، صار اليوم بإمكان الفنانات حمله.
يعتبر عبد الحق صبري، صحفي ومهتم بالتراث الكناوي، أن هذا الأخير هو تراث مشترك بين الرجال والنساء، بحيث أن المرأة هي مكون أساسي في هذه الثقافة، وهناك شخصية “لمقدمة” وهي شخصية رئيسية في الليلة الكناوية، إذ هي التي تسهر على التحضير “الليلة” من كل جوانبها، بما فيها اسم لمعلم الذي سيُحيي الليلة.
دور المرأة في كناوة، حسب صبري، كان مهما، وإن كان غائبا، خارج ليالي كناوة، إما في دار لمعلم أو الزوايا وغيرها. يورد صبري أننا نجد كذلك شخصية الجْدَّابَة وهي الشخصية التي تعيش روحها مع إيقاعات العزف والغناء، وترسم لنا لوحات فنية عجائبية برقصها المتفرد، الذي يعتبر طقسا لا محيد عنه في الليلة الكناوية.
يُجمع المتدخلون على أن حضور المرأة، وإن كان ثانويا، إلا أنه ضروري بالنظر إلى الخدمة التي تؤديها في الثقافة الكناوية، فيما يتجه عبد الحق صبري إلى المستوى الروحي للتأكيد على أن لها مكانة روحية مهمة، بالنظر إلى دور المقدمة أو الجدابة. لكن، كان من الصعب أن تتجاوز هذا الأمر لتحمل الكمبري أو تعزف على القراقب أو تكون مْعْلْمَة، شأنها شأن لمعلم.
فهل هذا كان حكرا على الرجال فقط؟
امتحان صعب
ليس بإمكان كل الرجال أن يكونوا “مْعلمين“. هكذا هي القاعدة في عالم كناوة. بإمكانك أن تكون فناناً كناويا، لكن لن تكون معلما إلا بإجماع كبار كناوة.
كي تصير كناويا، يجب عليك أن تمر بمراحل متعددة: تبدأ بالتعلم على يد مْعْلْمْ، ثم تجول بداية على عدد من “لمْعْلْمينْ” من مدينة لأخرى… وهذا الطقس يُسمى “كْرِيمَة”.
تقضي بعدها ليالي طوال كي تستطيع الوصول إلى تَامْعْلْميتْ. هاته الجولات والليالي تتكلل بامتحان في ليلة يحضرها لمعلم الذي تعلمت على يده، إما ليسلمك الكمبري… أو ليخبرك أنك لا زلت بحاجة للتعلم.
مراحل صعبة، توحي أن حمل لقب معلم، هو أمر صعب في عالم تاكناويت إلى عهد قريب، وأن اللعب على أوتار الكمبري لا يخضع لإجادة العزف، وإنما لطقوس خاصة.
اليوم، هناك تحول، يقول عنه عبد السلام عليكان، إنه يعود للحرية والانفتاح، ففي السابق، كنا نعرف أن الكمبري لا يحمل في الشَّوارع ولا يُباع في البازارات ومحلات بيع الآلات الموسيقية. كان يُحفظ في الزاوية أو دار لمعلم. فللكمبري هيبته وهذا ما تربَّينا عليه.
احتكار الرجل للكمبري، ليس إقصاء للمرأة، هكذا عبر صبري الذي يقول إن هناك شروطا صارمة وعملاً شاقاً لتستحق لقب “لمعلم” عن جدارة واستحقاق، حيث أنَّ لمعلم قبل عزفه على الكمبري، كان يمر بمراحل متعددة، قبل أن يصل للمرحلة الأخيرة التي يتحصَّل فيها على الكمبري أو الهجهوج، وتقام له ليلة خاصة إيذانا بأنه أصبح معلم ممن تعلم على يديه بهذا اللقب، ثم عليه أن يسافر ويجول ليكتشف طرق العزف الأخرى ويطور من عزفه باستمرار.
حسب أميمة مرشاد، فالطريقة التي يجب أن تسلكها المرأة للحصول على لقب “مْعلمة” هي ذاتها الطريق الذي يسلكها الرجل، غير أن المجال لم يكن مفتوحا أمام المرأة، لكن بإمكانها اليوم حمل القراقب والعزف عليها وعلى آلة الكمبري دونما حاجة لتكون من أب كناوي، كما هو الحال بالنسبة لـ “هند النعيرة”، التي لا تنتمي لعائلة كناوية، إلا أنها استطاعت تعلم الكمبري وعزف الأهازيج الكناوية.
يرى صبري أنه في الوقت الحالي، غابت الصرامة التي كانت في وقت سابق، وأصبح العزف على الكمبري شائعا بين محبي هذا التراث، وظهرت مجموعة من الشابات يحترفن الغناء الكناوي والعزف على الكمبري، ويمكن في هذا السياق أن نذكر الفنانة أسماء حمزاوي ابنة لمعلم رشيد حمزاوي، والفنانة الشابة هند النعيرة.
في الجزء الثاني، سنرى كيف استطاعت النساء ولوج فن كناوة. صرنَ فنانات يجلن في الساحات والمنصات الفنية، أعلنَّ تألقا ملحوظا لتبدأ حكاية جديدة في فن تاكناويت وهي كناوة بصيغة المؤنث.
لنتابع …
لقراءة الجزء الثاني: كناوة بصيغة المؤنث: … وحملت النساء الكمبري 2/2