بين الدعم والريع: لماذا فشل المغرب في خلق سينما تنافسية؟
ثمّة مفارقة واضحة حين يتعلق الأمر بالمشهد السينمائي المغربي، فمن الملاحظ أنّ هناك “وفرة” وتزايدا في إنتاج الأفلام الطويلة والقصيرة، بفضل دعم الدولة. لكن هناك، بالمقابل، “ندرة” في عدد القاعات السينمائية.
هذه “الندرة”، مع أسباب أخرى، أدّت إلى تقلص عدد رواد السينما في المغرب بشكل مهول في السنوات الأخيرة، وفق المتابعين للشأن السينمائي المغربي. لكن، لوحظ أيضا أنّ الدعم العموميّ للسينما بالمغرب مثّل حلقة وصل محوريّة لما بلغته الأعمال المغربية من “تطور” نسبيّ…
هنا، تتساءل مرايانا: هل يمكن أن نتحدث عن سينما مغربية تنافسية في ظل عدم وجود منتجين يستثمرون أموالهم الخاصة في عملية الإنتاج؟ وهل يشكّل الدعم العموميّ نوعا من الريع يعمق أزمة الإنتاج ببلدنا ويجعل السينما عبئا على الدولة؟
السينما المغربية: صناعة؟
نتواصل مع إبراهيم الحسناوي، الباحث السينمائي والناقد المغربي، الذي ينطلق من كون السينما تعدّ صناعة بكلّ مقوّماتها. “وهذا دليل على أنها بدأت كاختراع تقني ثم تطورت كذلك لمرحلة الإبداع ثم استمرّت في التطوّر حتى صارت صناعة ثقافية تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، كما يقول الباحث أندري مالغو”.
الإنتاج السّينمائي، وفق ما بينه الحسناوي لمرايانا، دخل للسّوق مبكّرا وأصبح قطاعاً تنافسيًّا بامتياز؛ إذ يعتبر هذا الإنتاج حلقة مهمّة في الدّورة الاقتصادية للسينما التي تتكون من أربعة مراحل: مرحلة الإنتاج ثم التوزيع ثم الاستغلال ثم الاستهلاك، والسينما المغربية ليست خارج هذه الحلقة، بما أنّ الإنتاج يعتبر مرحلة حيوية توضّح كم تحتاج السينما لرؤوس أموال كبيرة.
لكن السؤال… من أين تأتي الأموال؟ يوضح المتحدث أنّ تمويل الإنتاج يتراوح بين القطاعين الخاص والعام؛ ولو تأمنا حكاية المغرب في المجال السّينمائي، نجد أن المركز السينمائي المغربي تأسس سنة 1944 من طرف سلطات الحماية الفرنسيّة، وساهم في إنتاج مئات الآلاف من الأفلام طيلة فترة تواجده.
كما شرع المركز في إنتاج الأفلام القصيرة منذ سنة 1947، تارة إنتاج أحادي وتارة بالتعاون مع شركات أخرى. ومنذ ذلك الوقت، تطور هذا الدعم الذي تقدمه الوزارة الوصية والمركز السينمائي المغربي.
كما أنّ هذا الدّعم العمومي عرف منعطفا سنة 1980، حين تأسّس صندوق الدعم السينمائي الوطني، الذي يعتبر من بين الإجراءات الهامة التي تم اتخاذها. منذ ذلك الحين، ارتفعت وتيرة الإنتاج المغربي وعرفت قفزة عندما أحدثت اللّجنة الخاصّة بدعم الإنتاج. ومازال الدعم يقدم إلى يومنا هذا. سواء تعلق الأمر بالفيلم القصير أو الطويل أو الوثائقي.
يذكرُ الحسناوي أنّ هناك أعمالا سينمائية مغربية أنتجت من المال الخاص لمخرجيها، مثلا “الإبن العاق” للمخرج محمد عصفور الذي أنتج بإمكانات ذاتية متواضعة، وفيلم “حذاري من المخدرات” لمحمد عبد الواحد التازي، وأفلام محمد المصباحي، إلخ. هناك أمثلة عديدة في هذا الصدد، لكن النسبة الكبرى أنتجت بدعم عمومي. وهذا لا يطرح مشكلا إلا حين يصير هو الأصل، وحين يغيب المستثمرون عن عملية الإنتاج.
بالنسبة للحسناوي، فإنّه، بالصّيغة الحالية أو إذا لم يكن هناك تنويع في مصادر تمويل الأعمال المغربية، فمن الصعب مثلاً الحديث عن سينما مغربية تنافسية! وطالما أن هناك اعتمادا كليا على الدعم العمومي، فلا يمكننا الخروج من معضلة الكمّ على حساب الكيف التي نعالجها كلّ مرة”.
كما يشير أنّ “الدعم العمومي ليس كبيرا جدا. لذلك، فهو لم يمكن دائما من إنتاج أعمال سينمائية ذات جودة عالية أو بقوة إبداعية كبيرة أو بحمولة فنية أو جمالية”.
لكن المعضلة أنّ هذا الدعم صار مصدراً لنوع من الريع، مما أدّى إلى التضحية بالجودة والإبداع بغية تخفيض المصاريف، وهذا ما أشار إليه الكتاب الأبيض للسّينما المغربية لسنة 2013؛ بحيث يتمّ الأمرُ “باستخدام طرق كتجنب اللجوء إلى الكفاءات التقنية والفنية والأدبية المكرّسة والاستعاضة عن ذلك بتراكم المهام أو اللجوء إلى عمالة فنية جديدة وغير مكلفة لتحقيق هامش ربح من رأسمال غير كافي أصلا”.
هذا الطرح هو ذاته الذي يسير فيه المخرج المغربي عز العرب العلوي، معتبراً أنّنا “في المغرب، نلاحظ عدم اقتحام القطاع الخاصّ لمجال الاستثمار المالي في الإنتاج والتوزيع السّينمائيين، فما ينقصنا هو وجود بنوك خاصة بالسّينما وبالعمليّة الفنيّة في بلادنا، كي نؤسس صناعة سينمائية قائمة بذاتها”.
المخرج المغربي، حسب ما فسره العلوي لمرايانا، ينتظر دائما الإعلان على طلبات العروض التي تطرحها المؤسسات الثلاث الراعية والممولة للسينما في المغرب، المركز السينمائي المغربيCCM، والقناتين الثانية والأولى، بحيث يرسو الاختيار على قائمة محدودة من الأفلام، القصيرة منها والطويلة، وحتى الوثائقيات، لينتظر المبدع فرصته في العروض الموالية.
لذلك، يرى المتحدث أننا “نحتاج فعلا لرأسمال خاص يقتحم الميدان بشجاعة، ليس كشريك ممول داعم لهذه المؤسسات الثلاث فقط، بل ممول مستقل، أو بنك خاص بالسينما، يقدم المخرج له ملفه ومشروعه المتكامل، للحصول على قرض وفق امتيازات خاصة، وبسعر فائدة خاص، دون انتظار طلبات عروض في وقت محدد، بل على مدار العام”.
العلوي يدعو، في هذا السياق، القطاع الخاص كي يساهم في قيام صناعة سينمائية مغربية قارة في المغرب، على غرار البنوك التي تهتم بالعقار، والبنوك التي تهتم بالقطاع الفلاحي، وهكذا يمكن أن يكون هناك قطاع سينمائي يعود بمداخيل مهمة للاقتصاد المغربي.
كما يبرز أنّه لابد من الاهتمام بهذه الأمور، إضافة إلى الاهتمام بعملية التوزيع، لأنه حينما نتحدث عن التوزيع، نتحدث عن الوصول إلى الآخر، نحاول أن نوصل ما نقوم به، وأن نوصل ثقافتنا، فلا يجب أن تظل أفلامنا السينمائية مركونة في الرفوف داخل المغرب، أو مقتصرة فقط على المهرجانات الصغيرة الجهوية والعالمية.
عز العرب يخلص أنّ الأعمال المغربية ينبغي أن تحضر حتى في المهرجانات الضخمة والكبيرة، ويجب من خلالها أن تصل سينمانا إلى تلفزيونات الآخر، كي تراها الشعوب الأخرى. فيجب إذن أن تصل الأفلام إلى التوزيع بشكل كبير، مثلما تغزونا الآن تركيا والكثير من الدول الأخرى، مثل المكسيك والبرازيل وأمريكا، وغيرها من الدول التي اقتحمت شاشاتنا بثقافاتها عبر أفلامها ومسلسلاتها.
فوضى سينمائية؟
يشدد الناقد السينمائي المغربي أحمد السجلماسي على أن معضلة السينما المغربية تتعدى مشكلة التمويل، بما أنّ “هناك نوعا من الفوضى في مجالات السينما بالمغرب. الكل أصبح يقوم بكل شيء بحيث لم يعد هناك احترام لمبدأ الاختصاص، بحيث يتكلف المخرج بالإخراج والمنتج بالإنتاج، وغير ذلك.
السجلماسي يضيف في تواصله مع مرايانا أنّ العمل السينمائي أو التلفزيوني عمل جماعي لابد فيه من احترام مبدأ الاختصاص، مع استثناءات قليلة تتمثل في كون بعض الفنانين يمكنهم الجمع بين أكثر من اختصاص نظرا لتعدد مواهبهم. لكن يبدو أن الهاجس المادي هو المحرك الأساسي في عمليات الجمع بين تخصصات عدة.
الناقد يرى أيضا أنه، رغم تعرف المغرب على الظّاهرة السينمائية بشكل مبكر جدا، منذ مرحلة حكم السلطان مولاي عبد العزيز، في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20، إلا أن البلد لم يتمكن لحد الآن من خلق صناعة سينمائية حقيقية، علما بأنه يتوفر على مقوماتها؛ مؤكدا أنّ “المغرب في حاجة إلى سياسة سينمائية شمولية تنظر إلى القطاع من جوانبه المختلفة، وإلى إرادة سياسية حقيقية تروم النهوض بقطاعات الثقافة والفنون وجعلها رافدا أساسيا من روافد التنمية الاقتصادية وغيرها”.
لكن، ماذا عن الفرجة؟ يجيبُ المخرج المغربي عز العرب العلوي أنّه “لا يمكننا القول إن السّينما المغربية غير قادرة على إنتاج الفرجة. الفرجة هي عمل من الأعمال التي يستقيها المبدع من واقعه، وبالتالي يمكنه أن يصنع فرجته، لأن حتى ذاك الإنسان البسيط الذي يقوم بـ”الحلقة” بساحة جامع الفنا فهو يصنع الفرجة، ولكن من ماذا يصنعها؟”.
تصنعُ الفرجة، وفق العلوي، من الواقع المعيش، مما يشاهده المبدعُ ويعاينه كل يوم، حتى لو كان هذا الواقع صادما ولو كان هذا الواقع فيه ما يخدش الحياء، لأنه حينما يصنع الفرجة فهو يصنعها دون قيود أو شروط، وبالتالي حينما تفرض عليك معايير معينة ويصبح لديك رقيب على أعمالك، فهذا هو ما يؤثر على صناعة الفرجة، ليس في المغرب فحسب، ولكن في جميع الدول.
ثمّ إنّ مقولة الفرجة تعيدنا إلى النقطة الأساسية، وهي الإنتاج، ذلك أن صناعة الفرجة، تتطلب وجود منتج مستعد لأن يغامر في عملية صناعة الفرجة، بمعنى أن عملية المغامرة تأتي انطلاقا من أنك تكتب فرجة جريئة أو فرجة على مستوى إبداعي متميز وتحتاج مجموعة من الآليات.
لذلك، يجمل العلوي أنّ الأمر يحتاج أن يكون المنتج في مستوى هذه التجربة وفي مستوى العملية الإبداعية. لكن…
حين يصبح التلفزيون هو المقرر لطبيعة الفرجة، وربما هو الذي يحدد معالمها، وربما قد يكون هو أيضا في برج عاجي بعيدا عن هموم المجتمع، فهذا هو الذي يؤدي إلى صناعة عمل بعيد عن الفرجة. وبالتالي فلابد من أن يكون هناك تماسك ما بين الفرجة وما بين هموم المجتمع.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- السينما والكتب… ثلاثة أفلام احتفت بشغف القراءة وحلم الكتابة
- خوان مانويل دي برادا… “المهابل”، كتاب الضجة
- أفلام موسيقية حققت نجاحات وجوائز عالمية هامة
- ”جيمي هندريكس” وأسرار الزيارة التاريخية لقرية ”ديابات”
- الفيلم المصري ”ستاشر” يخلق المفاجأة، ويخطف السعفة الذهبية في مهرجان كان
- محمد شكري… الشحرور الأبيض، راوي طنجة وصاحب “الخبز الحافي” 2/1