الدراما السورية تصرخ: ابتسم أيها الجنرال
في الوقت الذي تطالعنا نشرات الأخبار بعودة العلاقات العربية بالنظام السوري، تخرج علينا الدراما السورية بعمل درامي جديد تتشابه فصوله وأحداثه بنظام الأسد في سوريا. “ابتسم أيها الجنرال”، العمل الدرامي الاكثر إثارة على مدار شهر رمضان والبعيد عن مقص الرقيب والذي تخطى سقف المسموح به في الدراما العربية والمفعم بتحطيم التابوهات التي كانت ممنوعة على أي عمل فني سابق، خاصة إذا تعلق الامر بالحديث عن قصور الرئاسة أو الصراعات حول السلطة وأدوات الحكم.
شكلت الأعمال الدرامية، وعلى مدار عقود متتابعة، تأثيراً كبيراً من بين كل أشكال الفنون المختلفة على وعى الأفراد وتصور الجماعات وضبط المفاهيم، وتحولت شيئاً فشيئا إلى سلطة استحواذ غير مرئية تتجلى قدراتها في التأثير على السلوك والأفكار والتصورات.
عند الفلاسفة، يمثل الفن شكلاً نوعياً من أشكال النشاط الاجتماعي الذي يعكس وعي الإنسانية بواقعها الاجتماعي وتاريخها، بل وما ينبغي أن يبتني عليه مستقبلها في كثيرٍ من الأحيان.
من هنا، كان الفن أحد الأدوات المهيمنة على العقل الجمعي وأحد أهم أدوات السلطة أيضا، لتأخذ أشكالاً عديدة تحمل في طياتها دمج الرؤية والأيدلوجية الحاكمة في الفنون، وصولا لجعلها أداة إلهاء وإثارة في بعض الاحيان، حتى وإن استغلت لتزييف بعض الحقائق أو تعمدت تغييبها، حرصاً على تثبيت رواية المؤسسات الرسمية أو الدوائر الخاصة القريبة منها.
وإن كنا نؤكد على علاقة الفن بالسلطة، إلا أننا الآن بصدد الحديث عن عمل درامي جديد يمثل شكلا من أشكال المقاومة الرمزية للسردية المعتادة عن علاقة الفن بالمؤسسات الرسمية والتي تمثل كسراً رمزياً لتلك العلاقة المعقدة.
يقول بابلو بيكاسو: نعرف جميعاً أن الفنّ ليس الحقيقة، إنه كذبةٌ تجعلنا ندرك الحقيقة…
وإن كنا ندرك تمام الإدراك دور الفن في إيصال الحقيقة والدفاع عنها وأهمية طرحها في إطار عمل متكامل نصاً واخراجاً، إلا أن سياق العمل الدرامي يفرض علينا أحياناً أدوات نقد مختلفة تماما عن الأدوات المعهودة في الأعمال الفنية الأخرى، فلا مجال هنا لمناقشة جودة العمل الفني من زاوية الإنتاج أو الإضاءات أو الأزياء أو مساحة الأدوار، إلى الانتقال لمناقشة العمل من زاوية الموضوع حصرا، وهو ما نجح فيه “ابتسم ايها الجنرال”، حيث أحدث جدلا واسعاً بين المتابعين؛ خاصة في سوريا، حتى قبل عرضه على الشاشات، ما بين مؤيد يرى فيه خروجا عن المألوف، وأنه عمل يلامس الواقع السياسي في جرأة وحرية شديدتين، ومعارض يري فيه إسقاطات سياسية تدعم وجهة نظر بعينها، وهو ما نستطيع أن نعتبره نقطة تضاف لصالح العمل، فالعمل طرح نقاشا جديدا على المجال العام وعابرا للأنظمة السياسية، كما حظي بنسب مشاهدة كبيرة تخطت المليون مشاهدة في أيامه الأولى، مما يجعلنا أمام عمل درامي أصبح مثار جدل عام مقارنة بأعمال سورية أخرى بل ومن المنطقة برمتها أيضا.
من هنا تبدأ الحكاية
تنطلق أحداث المسلسل بمشهد قيادة عسكرية كبيرة تعاني من مرض قاتل سيفضي بحياتها في فترة قريبة، فتقرر تلك الشخصية أن تفجر فضيحة أخلاقية كبيرة وتكشف علاقات غير مشروعة مع عدد من زوجات أصحاب المناصب العليا. من بين تلك الأسماء، أخت رئيس الدولة؛ ثم تأخذنا الأحداث إلى نشوء خلاف بين الرئيس وأخيه ليتطور هذا الخلاف ويتحول إلى صراع مباشر على السلطة.
بالحديث عن العمل الدرامي، يتجلى نضوج المؤلف سامر رضوان، الذي استطاع الدمج بين الشخصيات والأزمنة والأحداث مع إحالة واضحة إلى فترة حكم الأسدين (الأب والابن)، وترك المجال للمناورة في المسلسل بعد تحرره من التقييد بإسقاط الأحداث على شخصيات محددة والابتعاد التام عن التوثيق، وترك المجال مفتوحا لخيال المشاهد للبحث عن أوجه الشبه واستحضار الماضي البعيد وربطه بالحاضر القريب والواقع المعاصر.
بالرغم من تأكيد الكاتب على أن تلك الشخصيات من وحي الخيال، إلا أن القواسم المشتركة كانت لا تخطئها العين، حتى في اختيار أسماء البطلين الرئيسيين في العمل، فرات وعاصي، في إشارة إلى النهرين الذين تقطع مياههما الأراضي في سوريا.
بالرغم من ضعف الإنتاج نسبياً والاداء الضعيف لبعض الفنانين، إلا أن اهتمام المتابع كان منصبّا بالأساس على الأحداث وربطها بالشخصيات، سواء في شخصية فرات شديدة الشبه بالأسد الأب أو الابن وطريقة وصول الأخير إلى السلطة، أو بالحديث عن الحركة التصحيحية التي أزاح بها الأب منافسه الأقرب، صلاح جديد، فيما عرف بالحركة التصحيحية، مرورا بدور فرات وارتباطه في الأذهان بشخصيتي ماهر الأسد ورفعت الأسد وفشل المحاولة الانقلابية التى قام بها رفعت الأسد على حافظ الأسد أثناء مرضه.
وسط كل تلك الأحداث، تألق عبد الحكيم قطيفان في دور حيدر المقرب من السلطة، ولم يفوت المؤلف أن يعرج على الشق المكمل لدولة الأسد بالحديث عن الجانب الاقتصادي وما يدور في كواليس الدولة من إقحام زوجة الأسد نفسها في هذا الصراع والذي عبر عنه المؤلف بـ “أهلا بك في عالم الشياطين”.
كما سعى الكاتب إلى تأكيد خلو السياسية من أي مفهوم أخلاقي، من خلال عرضه لبعض الاقتباسات من كتاب الأمير لميكافيلى، لا على سبيل المدح، لكن للتأكيد على كارثية هذا السلوك إذا وافق أنظمة سياسية خالية تماما من أي لون من ألوان المشاركة، وبعيدة تماما عن أي تمثيل ديمقراطي يضمن عدم توغل السلطة على حساب الافراد.
هذا ولم يخل العمل، كأي عمل درامي، من تقديم رؤية نقدية خاصة من المهتمين بالحالة السورية؛ لا سيما فيما يحمله العمل من رسائل سياسية مباشرة حيث وجه المخرج السوري محمد عبد العزيز هجوما حادا على المسلسل ورأى فيه عملا محرضا ومغرضا ويحمل رسائل سياسية مباشرة، وذلك في لقائه مع إذاعة “سام إف إم”، معتبرا أنه عمل إيدلوجي مباشر.
كما عبر باسم ياخور في برنامج “مراحل” على قناة “إس بي سي” السعودية على اختلافه الكبير مع الفنان مكسيم خليل، قائلا: “برأيي، إن كل حالة العمل خارج المنطق الفني وخارج ما يجب أن يكون عليه الفن”.
ختاماً
سواء اتفقنا أم اختلفنا حول تقييم العمل نجاحاً أو إخفاقاً، والرسالة التي يحملها، إلا أنه يمثل إضافة نوعية مهمة خارج إطار المسموح به فنيا؛ خاصة في الدراما العربية، وهو ما يرفع سقف الطموح في إنجاز أعمال فنية أخرى بعيدة عن مقص الرقيب وبوصفها نقطة انطلاق جديدة.
. يارا خليل: باحثة في التاريخ والفكر الإسلامي