محمد عابد الجابري… المفكر الذي وضع العقل العربي على مشرحة النقد 2/1
“سي عابد” لدى المقربين منه، “محمد عابد الجابري” لدى العامة… اسم أشهر من نار على علم في الأوساط الثقافية والفكرية في المغرب والعالم العربي… اشتهر بتعريضه العقل العربي لمشرحة النقد، وبالمقابل لم يسلم هو أيضا من نقد “لاذع” إذ اتهم من قبل كثيرين بالزيغ المنهجي.
من مدينة فجيج التي تتاخم الحدود المغربية الجزائرية، سيشد الرحال إلى الرباط العاصمة، طالبا في مرحلة أولى؛ ثم في مرحلة ثانية، الأستاذ نجم الجامعة، ذائع الصيت، الذي لا تشغر مساحة في محاضراته.
“سي عابد” لدى المقربين منه، “محمد عابد الجابري” لدى العامة… اسم أشهر من نار على علم في الأوساط الثقافية والفكرية في المغرب والعالم العربي… اشتهر بتعريضه العقل العربي لمشرحة النقد، فكان باكورة أعماله، كتاب “نقد العقل العربي” الذي قيل فيه: من يقرأه، لا يعود بعد أن قرأه كما كان قبل أن يقرأه”.
مع ذلك، لم يسلم الجابري من نقد “لاذع”، أبزره من المفكرين طه عبد الرحمن وجورج طرابيشي، إذ اتهماه بزيغ كثير ليس أقله، الخلل في إحالته على المراجع… نقد لم يرد عليه الجابري، وإن رد، فعل بانتقاص حسب البعض، والتهمة تبدو ثابتة في نظر كثيرين…
اقرأ أيضا: عبد الله العروي… صاحب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”
في هذا البورتريه، نرسم بعضا من ملامح سيرة ناهزت 75 عاما من الحياة، من الفكر والثقافة والمعرفة… سيرة مفكر مغربي اسمه محمد عابد الجابري.
نشأة مفكر
أبصر محمد عابد الجابري النور عام 1936 بمدينة فجيج أقصى شرق المغرب، في قلعة سكنية تدعى “زناكة”. بعدما شاء الزمن أن ينفصل والداه، نشأ في كنف أمه، ومن ثم عند أخواله، فلقي عندهم ما فتح عينيه على مسار سيبصم حياته كلها.
نشأ الجابري في عائلة متدينة شغوفة بالمعرفة؛ وكان جده من أمه يعكف على تلقينه سور القرآن، ثم أدخله إلى كتّاب ليتعلم القراءة والكتابة حتى تمكن من حفظ ثلث القرآن، ثم ما لبث أن انتقل إلى كتاب آخر بعدما تزوجت أمه من الشيخ الذي يدرّس فيه، إلى أن ألحقه عمه بمدرسة فرنسية قضى بها عامين.
كان الجابري منتسبا إلى خلايا العمل الوطني ضد الحماية الفرنسية، ثم عضوا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لسنوات طويلة، مع أن المعطيات التاريخية تشهد بأنه لم يتفرغ للسياسة، بل نظر إلى العمل السياسي كالتزام نضالي وحسب.
الدراسة في مدرسة فرنسية كانت خيانة بالنسبة للوطنيين. خيانة للدين وللوطن… هكذا، كان البعض يدرس فيها في خفية إذا ضغطت عليهم السلطات الفرنسية.. استمر الحال على ذلك، إلى أن راودت أحدهم فكرة إنشاء مدرسة وطنية بفجيج، وذلك ما حصل بعدما نال رخصة إنشائها، فانتقل إليها الجابري، ليحوز منها الشهادة الابتدائية عام 1949.
“الانتقال من المدرسية الفرنسية إلى المدرسة المغربية خلف في نفسي أثرا عميقا، وغدا يتحكم بصورة تلقائية وعفوية في توجيه نظرتي للأمور”، يقول الجابري عن هذه المرحلة، مضيفا “بدأت أشعر بهذا الأثر في وقت مبكر، فرضيت به وأقررته وربما هو من فرض نفسه عليه كاختيار لا أحيد عنه، لا فرق”.
اقرأ أيضا: مرايانا تستحضر سيرة عبد الرحيم بوعبيد، أحد أبرز المعارضين في تاريخ المغرب الحديث
عام 1957 سيحصل الجابري على شهادة الباكالوريا، ثم سافر إلى دمشق وحصل هناك في غضون عام واحد على شهادة “الثقافة العامة”؛ ثم عاد إلى المغرب ليلتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
في غضون ذلك، اشتغل معلما وأستاذا، ونال، مع توالي السنوات، شهادة الإجازة وشهادة الدراسات المعمقة، ثم دكتوراه الدولة عام 1970 عن موضوع “العصبية والدولة، معالم النظرية الخلدونية في التاريخ الإسلامي”، فعمل بها أستاذا للفلسفة والفكر العربي الإسلامي بذات الكلية.
مسارات عديدة
قبل أن يشتهر الجابري كفيلسوف أو مفكر، نشط في مجالات عديدة… وهو بعد صبي، كان منتسبا إلى خلايا العمل الوطني ضد الحماية الفرنسية، ثم انضم إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فكان عضوا بارزا في مكتبه السياسي لسنوات طويلة، مع أن المعطيات التاريخية تشهد بأنه لم يتفرغ للسياسة، بل نظر إلى العمل السياسي كالتزام نضالي وحسب.
الجابري كان أحد أكثر الأقلام المطلوبة في العالم العربي؛ ذلك أن ما من صحيفة أو مجلة إلا وخطبت ود كتاباته، فيما ظلت إجابته الشهيرة دائما “سنرى” مخرجا لكل إلحاح يواجه به.
“الامتزاج، بل الاندماج بين الوطنية والسياسة في وعيي، هو ما يفسر في نظري على الأقل، جوانب كثيرة من سلوكي الحزبي ومواقفي السياسية. ومن دون تواضع زائف أستطيع أن أؤكد أنني أقبل من نفسي الخطأ وجميع أنواع الضعف البشري في الميدان السياسي أو غيره، ولكنني لا أتصور أني أستطيع أن أسلك أي سلوك انتهازي كيفما كان”، يقول الجابري عن هذه المرحلة من مسار حياته، رافضا أن تكون السياسة مدخلا لنيل المناصب.
اقرأ أيضا: عبد الرحمان اليوسفي… أيقونة السياسة المغربية!
في أثناء ذلك، اشتغل الجابري أحيانا كصحافي… صحافيا في يومية “العلم” لسان حزب الاستقلال، وجريدتي “المحرر” و”الاتحاد الاشتراكي” الصادرتين عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ثم بعد ذلك قلما في مجلتي “أقلام” و”الأهداف”.
الجابري كان أحد أكثر الأقلام المطلوبة في العالم العربي؛ ذلك أن ما من صحيفة أو مجلة إلا وخطبت ود كتاباته، فيما ظلت إجابته الشهيرة دائما “سنرى” مخرجا لكل إلحاح يواجه به، فاستقر به المقام كاتبا لمقال أسبوعي في مجلة “المجلة”.
فما هو المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري؟ وما أبرز الانتقادات التي وجهت له؟ ذاك ما سنعرفه في الجزء الثاني من هذا البورتريه.
لقراءة الجزء الثاني: محمد عابد الجابري… نقد العقل العربي ولم يسلم من أسواط النقد المنهجي! 2/2
المرحوم الأستاذ الكبير الفيلسوف سيدي عابد الجابري يبقى في قمة الفلاسفة العرب لروحة الرحمة …