من مصر، منى حلمي تكتب: نساء ورجال وشباب إيران ينتزعون بدمائهم الحرية والكرامة
يتوحد العالم المختلف فى كل الأشياء، ليرسل لنا رسالة واحدة غير مشفرة، بكل اللغات واللهجات، تعلن أن “الحرية ليست صالحة فى كل زمان ومكان”، وأنها تناغمت مع سياق تاريخى محدد، لن يعود.
كل يوم، يجمع العالم آلياته القديمة والجديدة المدربة من أزمنة بعيدة، السلاح، والثقافة والفن والإعلام، ليطلقها في وجوهنا، صفعات متتالية، خبيثة، مستترة وراء أسماء كثيرة وعديدة، ليقول لنا: إن الحديث عن الحرية أصبح “دقة قديمة”، انتهت صلاحيتها فى عصر العولمة والتكنولوجيا والحداثة، وزواج الفلوس بالسلطة والأصوليات الدينية، واستعادة عصور الحروب، وأنها أصبحت من الكلمات “المشبوهة”، سيئة السُمعة والمصير.
يتوحد العالم المختلف فى كل الأشياء، ليرسل لنا رسالة واحدة غير مشفرة، بكل اللغات واللهجات، تعلن أن “الحرية ليست صالحة فى كل زمان ومكان”، وأنها تناغمت مع سياق تاريخى محدد، لن يعود.
يبشرنا أن زمن “البطولات”، فات مثل زمن المعجزات.
وهو بارع فى صنع البدائل، فقد استبدل كلمة “الحرية”، بكلمة “التكيف”، وكلمة “الثورة” بكلمة “الخلاص الفردي”. يصدر لنا مقولة أصبحت مثل “العلكة” في الأفواه: “أنت حر ما لم تضر أو تؤذي”. وتغافل عن أن الحكم بالضرر أو الأذى أمر نسبي، فمنْ الذي يحدد مقدار وكيفية الضرر أو الأذى؟
عالم ذو مهارة فى طبخ الوجبات الدسمة، فهو يقدم لنا في الإفطار والغذاء والعشاء، أطباقا شهية مغرية من “أوهام الحرية”، تعطينا شعورا بإشباع مخادع.
الأديان لم تذكر في كتبها المقدسة كلمة “الحرية”، ولم يتكلم الرسل والأنبياء عن “الحرية”؛ بل فقط عن الأوامر والنواهي والعقاب والعذاب.
والميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948، لماذا لم يُسمَّ الإعلان العالمي لحريات الإنسان؟ سؤال لا يفارقني.
اجتماعات بأسماء تزغلل العين من بريقها، ليس لتحقيق “الحرية”، ولكن لتحسين وتقنين وتبرير وتزويق وإخفاء جذور وتحديث “العبودية”.
لكن، هناك على أرض إيران، شعب بنسائه ورجاله وشاباته وشبابه، من كل الأعمار والأطياف والمهن والشرائح والفئات والطبقات ، يضرب حائط المعتقل الكبير المسلح، وينسف الإشاعات عن “الحرية”.
شعب ذو حضارة عظيمة في جميع مجالات الإبداع الإنساني، تركت تأثيرها على حضارات وثقافات عديدة.
شعب إيران الذى يخوض ثورة شعبية حقيقية، على مدى أكثر من ثلاثة شهور على التوالي دون توقف، ضد نظام ولاية الفقيه، ونظام الملالي الذي حكم إيران بالاسلام الشيعي بقيادة آية الله خوميني، الذي ساندته ودعمته أمريكا، ليعود سالما من منفاه في باريس إلى طهران، ويقفز على الثورة الشعبية ضد ملكية الشاه محمد رضا بهلوي، ويستولي على الحكم فى 11 فبراير 1979، بدعم من التيارات القومية والليبرالية والاشتراكية واليسارية، على رأسها مجاهدي خلق، تلك المقاومة الشرسة المنظمة الفدائية الجسورة الدؤوبة، والتي فقدت مئات الآلاف من الشهيدات والشهداء. منذ تولي الخميني الحكم ومنذ أصبح المرشد العام، وأعلن الجمهورية الإسلامية الشيعية، بدأ سلسلة لم تتوقف حتى الآن من القمع والاغتيالات والتعذيب والتهديد بالاعدام والمطاردة، لكل منْ ساعدوه ودعموه، ومنْ يظهر معارضة -ولو سلمية- للنظام.
شرارة أطلقتها النساء بخلع وحرق الحجاب خاصة بعد موت مهسا أميني، فى 16 سبتمبر 2022، ضحية تعذيب شرطة الأخلاق. امتدت الثورة والانتفاضات والاضرابات والاعتصامات والاحتجاجات فى كل إيران، بينما يتعرض الكثيرون منهم يوميا إلى القتل والإعدام والابتزاز.
جميل أن نرى شعبا ينتفض بلا توقف، لمدة أكثر من ثلاثة شهور، ويحقق رغم حجب الأنترنت والمطاردة والإعدام وسفك الدماء والحرائق والترويع، انتصارات متتالية ضد نظام الملالي وولاية الفقيه. لقد توقف العمل بشرطة الأخلاق التي قهرت النساء الإيرانيات بفرض الحجاب، ومعاملتهن كالمعاقات فكرا وعقلا، “حريم” منزوعات الحرية، مملوكات للذكور.
أيضا، وبعد تقدم “مريم رجوى”و الرئيسة المنتخبة في المنفى، مع حقوقيين ومحاميين، بشكوى إلى المحكمة الدستورية البلجيكية، تم إيقاف معاهدة تبادل الأسرى مع نظام الملالي، باعتباره عضوا غير ملتزم بالحقوق القانونية الدستورية السياسية.
بحكم هذا الإيقاف، لن يُعفى الدبلوماسي الإرهابي أسد الله أسدي من قضاء عقوبته في بلجيكا.
كل يوم تزداد الإدانات الدولية لنظام الملالي، ومطالبتها بالإفراج عن اعتقال المسجونين المسالمين في إيران.
كل يوم مكاسب جديدة للمقاومة، يهتفون وهم يدفنون شهداءهم : “قسما بدم الرفاق، سنبقى صامدين حتى النهاية” .. و”خامنئي السفاح سندفنك تحت التراب” و”يا قوم لا تخافوا سيرحلون.. الخنوع محظور” و “القطيعة مع الخضوع”، وإن انتكست حتى مؤقتا، سترجع أكثر قوة وإصرارا.
المقاومة الشعبية الإيرانية، تتحدى فتاوى “لا تجهر بالحرية”، ومقولة أن “الحرية غير صالحة لكل زمان ومكان”، اخترعتهما نفوس شربت الذل حتى الثمالة والانتشاء.
نعم… هناك بشر متشبثون، نساء ورجالا وشابات وشباب، بما يعتبرونه مرادفا للحياة، بل أثمن وأشرف ما فى الحياة .. “الحرية”.
نساء ورجال مازالوا يؤمنون أن “الحرية” ليست كلمة منقوشة على قمصان نرتديها، ولكنها “موقف” صامد، و”فعل” ليس مستحيلا ولا رذيلا، يتجدد كل لحظة، لا تحكمه معايير صلاحية السلع والماكينات، بل معايير صلاحية الإنسان ومقاييس جودة البشر وشروط شرف النساء.
نساء ورجال، شابات وشباب، يدركون جيدا أن “الحرية” ليست بالضرورة هي “السعادة”، و “الراحة”، لكنها بالضرورة الشيء الوحيد الذي يجعلهم بشرا ولا يشبهون إلا أنفسهم.
وهذا هو بيت القصيد: “الجين” الموروث من عظمة الجدات والأجداد، المحدد لكل الأشياء من الألف حتى الياء.
لا أملك للمقاومة الشعبية الإيرانية، إلا كلماتي الداعمة المبهورة بها، وقلبا فرحا، ينبض بأن “الحرية” هي كل شيء. وكل شيء بدونها، لا شيء.
الشِعر خاتمتي
قصيدة : يحدث كل مساء
تنام عيون المدينة
وتستيقظ آهات قلبي
تفض الهدوء والسكينة
تصرخ شهقات صدري
يعلو صوت البكاء
أمتطي أحزان عمري
أصل منهكة متعبة
لآخر مجرات الفضاء
أتكور مثل الجنين
أريد العودة إلى رحم أمي
رحلت وهي تدرك أني
لا أشتهي حبيبا أو زوجا
لم أكن أريد من الدنيا
إلا أمي