ابن الرومي: العصر المتشنّج والهجاء في “كَفَنِ القصيدة”… 2\2
حين أصبح المعتضد خليفة، انبرى ابن الرومي الشيعيّ لمدح الخليفة، الذي يعطف على مَنهم على مذهب التشيّع، رغم أنه لم يسبق أن فعل ذلك مع أحد من الخلفاء.
تابعنا في الجزء الأول مشاهدا من حياة ابن الرومي وتشيعه واتخاذه مذهب المعتزلة توجها لتفسير الظواهر الدينيّة المطروحة.
في هذا الجزء الثاني، نقدم نظرة عن العصر الذي نشأ فيه ابن الرومي، وكيف تفجرت في أشعاره سياسية معارضة جريئة يندر العثور عليها، لدى شعراء زمانه… وكيف أدى به توغله في الهجاء إلى الموت!
ابن الرومي وعصر “الفوضى”
يشير محمود عباس العقاد في كتابه: ابن الرومي، حياته من شعره”، أن هذا الشاعر أدرك في طياته ثمانية خلفاء؛ هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، والمعتضد الذي توفي بعد ابن الرومي ببضع سنوات.
لذلك، يجدُ العقاد أنه، إذا أردنا أن نحيط بالحالة التي كانت عليها الحكومة وسياسة الدولة يومذاك، أي في “العصر التركي”، أو فترة سيطرة الأتراك على الخلافة العبّاسيّة؛ فلعلنا لا نستطيع أن نعرض لذلك ببيان هو أوجز من الإلمام بالمصير الذي صار إليه بعض أولئك الخلفاء؛ فمنهم واحد قُتل، وهو المتوكل، وثلاثة خلعوا وقُتلوا بعد خلعهم؛ وهم: المستعين والمعتز والمهتدي، وقيل: إن من الآخرين من مات مسموما.
في ذلك الزمان، حيث كان ابن الرومي شاعر بغداد، انتقلت عاصمة الخلافة من بغداد إلى سامراء، وفي ذات الحقبة حدثت انتفاضات متفرقة وثورات شعبيّة ذات أثر بالغ، مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة وثورة بابك الخرمي… في هذه الأجواء، كان الأتراك لا يشعرون بعمق الانتماء الحضاري للعرب أو ذلك المجتمع الإسلامي. لذلك، كانوا يرهقون المجتمع بالقسوة. يحاول ابن الرومي وصفهم في هذه الأبيات:
ترى شبهَ الآساد فيهم مبيّناً …. ولكنهم أدهَى دهاء وأنكرُ
وجوههُمُ عند اللقاء وجوهها … وألحاظهم ألحاظها حين تنظرُ
هُمُ هيَ لولا إرْبُهم وحلومهم … لهم منظر منها مَهيبٌ ومخبر
لهم عُدّة تكفيهُمُ كل عُدّةٍ … بناتُ المنايا والحِنيُّ المدثّر
ويقول في موضع آخر من ذات القصيدة:
يولي المُولّي منهُمُ وهْو مانعٌ … حقيقتهُ لم يخزَ منه المذمَّر
يليك بحدّ شائك وهْو مقبلٌ … يليك بحد مثله حين يدبر
غير أن الملاحظ أنه يكتفي بوصفهم موضوعيا، فهو لا يمدحهم ولا يذمهم. وقد عرف عنه أنه لم يمدح أيا من القادة الترك، ولم يزر أصلا سامراء كثيراً.
حين أصبح المعتضد خليفة، انبرى ابن الرومي الشيعيّ لمدح الخليفة، الذي يعطف على مَنهم على مذهب التشيّع، رغم أنه لم يسبق أن فعل ذلك مع أحد من الخلفاء. يقول عنه:
هنيئاً بني العباس إن إمامَكُمْ … إمام الهدى والجود والبأس أحْمَدُ
كما بأبي العباس أنشئ مُلكُكُمْ … كذا بأبي العباس منكم يُجدّدُ
إمامٌ يظلُّ الأمسُ يُعْمِلُ نحوه …. تلفُّتَ ملهوف ويشتاقُه الغدُ
يودّ الزمانُ المنقضي عنه أنه … عليه لِزامٌ آخرَ الدهر سرمدُ
شيء من السّياسة
يقول ركان الصفدي في كتابه “ابن الرومي : الشّاعر المجدد” إنه، حين قامت ثورة يحيى بن عمر، الثائر الزيدي، عام 250 هـ، كان عمرُ ابن الرومي تسعا وعشرين سنة، وكانت هذه الثورة ذات أساس ديني تنتصر للشيعة الذين تعرضوا للإقصاء. وكان لهذا الثائر سمعة طيبة، خولت له حشد الناس. لكن جيوش محمد بن عبيد الله حاكم بغداد استطاعت التغلب عليه وقتله.
رثاء ابن الرومي لمقتل يحيى بن عمر، كشف عن تعاطفه مع الثورة ونقمته وحقده على العباسيين، إذ يقول ابن الرومي في قصيدته الجيمية:
أمامك فانظر أيَّ نهجيك تَنْهجُ … طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ
ألا أيُّهذا الناس طال ضريرُكُم … بآل رسول الله فاخشوا أو ارْتجوا
أكُلَّ أَوانٍ للنبي محمدٍ … قتيلٌ زكيٌ بالدماء مُضرَّجُ
والقصيدة، وفق الصفدي، تسير على هذا النحو من التفجع والبكاء، والغضب للشهيد والدعاء له ووصف المعركة التي سقط فيها، ثم يهاجم العباسيين بعنف قائلا:
أَجِنُّوا بني العباس من شَنآنكم … وأوْكُوا على ما في العِيابِ وأشْرِجوا
وخلُّوا ولاةَ السوء منكم وغيَّهم … فأحْرِ بهمْ أن يغرقوا حيث لجَّجوا
في قصيدة أخرى، يفصح ابن الرومي عما يعتمل في قلبه من غضب وحرقة لمقتل الثائر يحيى بن عمر، ويعبر عن موقفه النقيض جوهراً للسلطة العباسية:
لا تَشمتوا واذكروا منجَى طليقكُمُ … وجوهُكُمْ يا بني العباس للعَفَر
إن السيوف منايا كلِّ معتزِمٍ … يلقى المنايا بعزمٍ غيرِ منتشر
للهِ همةُ يحيى أين وجَّهَهَا … لو أنها شيَّعَتْهُ مُدّة العمر
بني النبي أما ينفك طاغيةٌ … مغادراً جَزَراً منكم على جزر
بني نُتَيْلةَ ثَلَّ اللَه عرشَكُمُ … كم للنبي لديكم من دم هَدر
وفي أبيات متقدمة من ذات القصيدة يصف العباسيين وولاتهم بأعداء الله:
سرى إليه عداةُ اللَه فانْصَلتوا … مستأسِدين عليهم جلدة النمر
مجاهدين بأسيافٍ مجردةٍ … كأنما قصدوا للروم والخزَر
كان ابن الرومي جريئا في منحى ما. عارض العباسيين ودعا إلى دمار دولتهم، واعتبر أنهم خرجوا بالخلافة عن مسارها الصحيح، ولم يطبقوا العدل في الأرض، ولم ينشروا قيم التقوى والورع التي يرفعونها كشعارات في الظاهر. غير أنه محتّم علينا أن نشير أنّ ابن الرّومي هدأ من روع ثوريته، وهادن القادة العباسيين ومدَحهم في فترة ما، وهو ما جعل النّقاد يرجعون ذلكَ إلى تكوينه النفسّي المضطرب، وبكونه “سريع الانقلاب”.
هجاءٌ وموتٌ!
كتبَ ابن الرومي قصائد من أفضل ما جادت به قرائح الشعراء العرب في الهجاء. وُصفَ برَبّ الهجاء، واعترف له خصمه البحتري بانفراده بالهجاء… يقول عنه المرزباني: “وهو في الهجاء مقدم لا يلحق فيه أحد من أهل عصره، غزارة قول وخبث منطق، ولا أعلم أنه مدح أحدا من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد عليه فهجاه ممن أحسن إليه أم قصر في ثوابه، فلذلك قلت فائدته من قول الشعر، وتحاشاه الرؤساء، وكان سببا لوفاته”.
كلّ ما كان يصلح موضوعا للهجاء، لم يفلته ابن الروميّ. الخلفاء والدولة والوزراء والقادة والكتاب والعلماء والشعراء والمغنيين الذين تطفلوا على الغناء أو أساؤوا إليه… وهجا حتى نفسه!
يقول في هجو قبيح الغناء:
لها غناءٌ يُثيبُ اللَّهُ سامعَه … ضعفَيْ ثوابِ صلاةِ الليلِ والصومِ
ظللتُ أَشربُ بالأرطال لا طرباً …. عَلَيْهِ، بَلْ طلباً للسكر والنومِ
كان على حسن بيّنة أن الهجاء مرعبٌ، وله وظيفة إعلامية مبهرة تجعله يسري بسرعة بين الناس، خصوصا أنّ هذه السّرعة كانت ترهب الخلفاء:
فإذا البدرُ نيلَ بالهجو هل يأ … مَنُ ذو الفضلِ ألسُنَ الشعراءِ
لا لأجلِ المديح بل خيفة الهجـ … ـو أخَذْنا جوائزَ الخلفاءِ
هجاؤه، هذا، كان منطويًّا على سخرية من كلّ شيء. وكان مرادا له أن يؤدي وظيفة اجتماعية تدّعي ذمّ العصر وتحطيم المخفيات وإبرازها، لكشف البخل والجبن والطمع والحرص والتلصص والتشفي.
ينقل الصفدي عن قحطان رشيد التميمي، أنّ ابن الرومي يشترك في هذا النزوع مع غيره من الشعراء الهجّائين، وكأن الشعراء أرادوا بذم العيوب الخلقية أن يعالجوا جانبية تربوية في مجتمعهم، فراحوا ينتقصون هذه الجوانب المعيبة المذمومة التي تحط من الأفراد والمجتمع على حد سواء. ولو أدى ذلكَ إلى… أن يعود إليه هجاؤه مدّثراً في “كفنِ قصيدة”، أي أن يقتل.
يُحكى أنه دُعِيَ من طرف وزير الخليفة العباسي المعتضد، أبي حسين القاسم بن وهب، وكان معه ابنه، وطفق يسمعهما أبياتا من الهجاء بثت فيهم رعبًا شديداً، خوفا من أن يكونوا موضوعا دسما لقصائده القوية، التي تهوي بالمهجو إلى أسفل دركات اللغة.
لذلك، قيل إنه درءاً لاي خطر محذق، قد ينبع من هذه القريحة الفيّاضة بالهجاء، دسّا له السّم في فطيرة وهو يجالسهما. وحين أحس بسريان السم في جسده نهض من المجلس، فسأله ابن وهب: إلى أين تذهب؟ فرد عليه: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له الوزير: سلم على والدي. فأجاب ابن الرومي ساخرا: طريقي ليس إلى النار.
هناك شبه إجماع على وفاته مقتولا بالسم، والسبب اتقاء هجائه. غير أنّ رواية التي تقولإنالوزير أبو القاسم هو المسؤول عن قتله، فيها كثير من الشك، خصوصاً أن هناك من النقاد،ومنهم محمود عباس العقاد، من يرى أنه لا يمكن أن يصرح بفعلته ببساطة بقوله “سلم لي على والدي”.
لكنّ المتفق عليه أنّه مات مقتولاً، والسبب هجاؤه القويّ واللاذع. كذلك عاش متقلّبا، ومات متطيّراً بالضرورة…
ذاك هو ابن الروميّ الأثير! أو قل، شاعر ودّع الحياة وكثير من الشعر/السمّ في جوفه!
- الجزء الأول: ابن الرومي: شيء من التّشيّع والثورة… والاعتزال! 1\2
مقالات قد تثير اهتمامك:
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
- الوجه الآخر للخلفاء العباسيين… الاهتمام بالعلوم والمعارف وترجمتها إلى اللغة العربية 4/3
- “نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1
- الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
- علي اليوسفي: البعد الشيطاني* للخطاب الديني 1\3