من لندن، محمد الشقاع يكتب: عن طوبوغرافيا «جزيرة المطفِّفين»
لأني قرأتُ كل أعمال حبيب سروري، فأنصح الجميع بالقراءة الدقيقة لهذا الجزء الثالث الذي اعتبره قمّة ما أبدعه حبيب، وخير نص لاكتشاف عمق أعماق أفكاره.
« جزيرة المطففين» (أي الغشاشين، الذين لا يفون بالكيل، حسب المدلول القرآني) «حيث يجتمع ويتقيح كل معتل وذو ريحة كريهة وشهواني جشع وكئيب ومترهل، وذو قرحة ومتآمر»، هي آخر أعمال الكاتب اليمني حبيب سروري.
رواية تختلف عمّا أنتجه سابقا، كُتِبت بطريقة استقرائية للمستقبل القريب، معتمدةً على ملاحظات وأدلّة من الواقع المعاش في مجال تخصصه وأبحاثه العلمية، شأنها شأن روايات استباقية أخرى، أشهرها رواية 1984 للبريطاني جورج أوريل، أو «كلارا والشمس Klara and the Sun» للكاتب البريطاني كازو ايشيغورو، الفائز بجائزة نوبل سنة 2017، أو الرواية الاخيرة لأمين معلوف: «أخوتنا الغرباء»، التي كتبها قبل عام واحد من الكوفيد19، وتنبأ فيها بغزو قوقازي لمدينة أمريكية بالسلاح النووي، وبجائحه تعمّ العالم.
استوحى حبيب سروري فكرة بداية روايته خلال فترة الكوفيد19، عند زيارته لمنطقة كاليه (على حدود فرنسا وبريطانيا): منطقه يتجمع فيها المهاجرون من بقاع الأرض، والحالمون بفردوس أوروبا، بعد عبور المانش، في مغامرة حياةٍ أو موت.
تنطلق الرواية من لحظة سماع أغنية يمنية قديمة (لأيوب طارش)، خلال رحلة هروب طفران اليمني وحجي الحبشي ومرورهما في كاليه. يدخل على خطِّهما بطلا الرواية الرئيسيان: فريد «العصفور النادر»، وسينديا الصحفية، ذات الأصول الهنديّة. (سعدتُ شخصيّا بهذا الاسم، لأنه اسم شابّة هنديّة تعرّفتُ عليها في 1980، في أول رحلة لي للهند، واحتفظُ للاسمِ بذكريات طيّبة)…
هذه الأربع الشخصيات، بالإضافة إلى الراوي (بلا اسم، عمدا في الرواية)، هم أبطال الرواية الخمسة.
تنقسم الرواية إلى 3 أجزاء. لن أدخل في الجزئيين الأول والثاني الذين تطرّقتْ لهم العديد من المقالات، واللذين يغرقُ في عوالمهما القارئ، ويخرج ظامئا باحثا عن إجاباتٍ لألف سؤال وسؤال.
سأتطرّق سريعا إلى الجزء الثالث الذي يجيب على كل هذه الأسئلة، والذي لم تتطرّق له أيّة قراءة نقدية للرواية حتّى الآن.
تنقسم الجزيرة إلى أقسام ثلاثة.
قسم ألف: (قسم النخبة والأبحاث العلمية الطليعية) حيث يُستخدم العلم لصناعة رفاهية عجيبة، لا تخدم في الأساس غير المصالح الجوهرية لقوى المال.
قسم ياء: قسم مختبرات المراقَبة المشددة على البشر. هناك تُحصي كل الأنفاس وما تنقره الأنامل، وكل ما يغول ويجول في الصدور والعقول.
قسم كاف: هناك المصانع العسكرية المدمرة، والروبوتات القاتلة المتجهة نحو حروب المسحوقين والمغضوب عليهم والعالقين في الماضي، كمجتمعاتنا العربية، ومدنها “غين” وغيرها في “حيّ ياء” العربي.
يتجول فريد وسينديا خلال ثلاث أيام في الجزيرة، كل يوم في قسم من الأقسام أعلاه.
كل أسرار الرواية تتضح خلال طوفانهما في أهمّ عمارات الجزيرة وأنحائها، طوال الأيام الثلاثة. كأنك معهما تشاهد فيلمَ خيال علمي حديث، مملوء بالروبوتات والعلماء، وآخر اكتشافات الذكاء الاصطناعي.
تثير الرواية الكثير من التساؤلات والحيرة والقلق والخوف معا، حول ما يجري في عالمنا من استقلالية تحكم الروبوتات في مستقبل حياه البشر، وحول جبروت الدول والشركات العابرة للقارات والأوبئة والهجرة والحروب والكوارث الطبيعية والانغلاق والحركات الشعوبية…
لكن برغم سوداوية وقسوة الواقع الذي لا يبشر بخير، يظل بصيص أمل في الجزء الثالث من الرواية، حيث هناك بشر ترفض وتقاوم. وحيث هناك من يريدون أن تكون الأبحاث والبرامج والحلول العلمية لمشاكل البشر الصحية والمعيشية والروحانية مصبوغة بلمسة أخلاقية.
رواية كتبت بأسلوب حبيب الساخر والمثير للتساؤلات الجادة والقلقة والضاحكة معا بأسلوب أدبي رفيع سلس، مستفيدا من خبرته العلمية وتخصصه في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وبطريقه سهلة للقارئ غير المتخصص.
رواية جادة استقرائية للمستقبل القريب بامتياز، وبداية للرواية العربية في هذا المجال الذي لم يبحر فيه أحدٌ بعد.
إذا كان لي، في الختام، أن أقول كلمتين حول الأجزاء الثلاثة عموما، فهو أن الجزئين الأول والثاني يشبهان حبيب سروري المتلهف لفتح ألف سؤال وسؤال، المشاغب بتحفيزه على التفكير والتساؤلات…
أما الجزء الثالث، فهو حبيب المحبّ للإنسان، القلق على مصير الناس والحياة، الذي لا يملك غير عقله وقلبه.
ولأني قد قرأتُ كل أعمال حبيب، فأنصح الجميع بالقراءة الدقيقة لهذا الجزء الثالث الذي اعتبره قمّة ما أبدعه حبيب، وخير نص لاكتشاف عمق أعماق أفكاره.