من الولايات المتحدة الأمريكية، الأكاديمي المغربي مختار بوبا يكتب: الهجرة وسياحة “النّية” في المغرب العميق 1\2
خدمات السياحة في المغرب تميّزت بشيوع نمط ثابت، ظلّ محافظاً على طرق التدبير والمعاملات التقليدية، التي بنيت منذ بدايتها على خدمة الزبون الأوروبي. فجل الأدوات التمثيلية والتواصلية ومسارات الإيواء التي تم تصميمها على مدار قرن تقريباً، تمّ قصّها على مقاس واحد؛ فالسائح النموذجي كان ولا يزال أوروبيًّا بشكل حصري.
عندما بدأت السياحة الداخلية تتشكل في المغرب، منتصف التسعينات من القرن الماضي، لم يجد الفاعل السياحي في الفندق والوكالة غير هذا المرجع الفرنسي العتيق لتدبير كمّ هائل من الخدمات، التي صار يطلبها السائح المغربي الجديد. ورغم الجهود التي قام بها بعض المستثمرين المحليين لتجديد البرامج السياحية وربطها بالفضاء الثقافي وبالإنسان [1]، فإن المنتوج السياحي العام ظل يقاوم التغيير، ولَم يستطع مواكبة تنامي الوعي بالتعددية الثقافية والهويات الاجتماعية في أبعادها المحلية والكونية.
من الناحية اللوجستية، صار السفر داخل المغرب أكثر سهولة نسبياً، خاصة بعد النقلة النوعية التي حصلت على بعض البُنى التحتية (رغم أن البنى التحتية بالجنوب الشرقي لا تعكس تطلعات السائح والمستثمر)، وكذا تطور وسائل النقل والاتصال وأنماط الحجز والتسويق وتدبير الزبناء. بعدما أصبحت السياحة صناعة أكثر عولمة، انتقل المهاجر المغربي (العائد) إلى خانة “الزبون الممكن أو المحتمل” [2] في لوائح الوكالات والفنادق ومكاتب الدولة؛ فأضيف رقمُه إلى إحصائيات السياحة ولوائح الوصول.
خلال العقد الأخير فقط، بلغت أعداد السياح المغاربة، بمن فيهم المقيمين بالخارج، أرقاما غير مسبوقة [3] وصلت أفواج منهم إلى أطراف الصحراء الجنوبية الشرقية، حيث أضفوا دينامية جديدة على الاقتصاد الوطني والمحلي، رغم أنها ترتبك بسرعة أمام أيّ تفاعل جديد، لأنها لازالت تعيش على إرث استعماري لا يستحضر إمكانية إدماج هذه الشرائح الجديدة بشكل يصغي لخصوصياتها وتجاربها الفريدة والمختلفة تماما عن المعتاد من السياح.
تنامت السياحة الداخلية في المغرب كذلك بسبب تغير أنماط العيش بالمدن، وانتشار أساليب جديدة في “ممارسة العطلة” (الفاكانس) التي كانت، إلى أمد قريب، حكراً على الميسورين الأوروبيين وأثرياء الوطن وبعض الموظفين الفرنسيين المقيمين [4]… إلى أن قام بعض شباب المدن (بالدار البيضاء خاصة) بزعزعة هذه التراتبية في منتصف التسعينيات، فنظموا رحلات سياحية إلى مناطق بعيدة جدا، مستلهمين في ذلك قدراتهم على الإبداع وخلق المغامرة لاكتشاف خبايا وكنوز الوطن.
أما المهاجر، فبعد عودته، يظلّ حبيس الوسط العائلي الذي يحدد حركاته وسكناته، إلى أن تغيرت شروط العودة والوعي بها. فالعودة تفرض عليه أن يتعلم كل جديد وبسرعة عن “أخبار الناس” والسياسة، وأن يُحيّن رصيده اللغوي لكي يضمن تأقلما إيجابيا مع وسطٍ ما انفك يبتعد عنه ويبعدُه. بعد سنوات، وبعد جهود مضنية، يصبح المهاجر أقرب الى صورة الغريب التي رسمها عنه الوسط، منه إلى ذاته كما يعي بها، فتكبر الهوة بينه وبين “لبلاد”، فتطفو أزمته الهوياتية من جديد على سطح الوطن.
في بلد الضيافة (خاصة بأوروبا وأمريكا)، يحاول المهاجر كل يوم فهم الصور المتعددة التي يرسمها عنه المجتمع المضيف: فهو المختلف والبرّاني [5] الذي انتقل من حيز “الغرائبية” إلى حيز “المغايرة” بسرعة وخلال أعوام. اليوم، أصبح المهاجر يعيش صراعاً يوميا مع العنصرية والاستعلائية الإقصائيّة للغير. فِي كلا الفضاءين (المهجر والبلاد)، يحمل المهاجر جراحَ مغايرة أبدية ويحاول فهم وتدبير هويات متعددة ومتنافرة مما يزيد من تباعد المسافة بينه وبين فرص التأقلم، فيصير الانتقال (السفر) حلا مؤقتا ومصدرا لغياب إجباري يعتبره كثير من المهاجرين موضعاً مألوفاً جداً ويومياً. الغياب يجعل الغربة قابلة للتحمل، والعزلة لا يقلّل من وقعها إلا السفر والاختفاء.
فهل ستمكّن السياحة الداخلية المهاجرَ من ضمان تماسكه مع الذات ومع المكان (لْبْلاد) في أفق تحرّره، ولو مؤقتاً، من قبضة “المغايرة” التي أثرت على علاقته بذاته وبفضائه الاجتماعي في بلده الذي ظل ينتقل لاشعورياً ودون علمه إلى الذاكرة؟ غالبا ما يكون المهاجر موضوع انتقاد وسخرية ناتجين عن ارتباكه الاجتماعي وتفاعله مع المحيط من موقع الذاكرة والماضي، بدل الركض لفهم مجتمع تسير فيه الأمور بسرعة فائقة إلى الأمام.
لا شك أن السفر سيظل في تبايُنِه الفلسفي “تطبيقاً” لهوية متحولة، تتخذ فيها “الحركة” بعدا أكثر واقعية من “المكان”، فيصبح الطريق السيار مثلا بديلاً عن مقهى الحي، والمخيم بديلا عن الزيارات العائلية… يعرف المهاجر منذ الصغر أن السفر تجسيد لشغف إنساني قديم بالتعلّم والاكتشاف. ربّما كان القدماء لا يسخرون حين قالوا إن “اللّي جال أحسَن من اللّي عاش”. وقد تعني “الجولة” السفر الذي تنتج عنه (بَعدَ التعب) متعة العلم وإسكات مؤقت لفوضى الغيرية أو ربما احتضانا لصمتها. رغم ذلك، فالفرق لا يزال شاسعاً بين مفهومي السفر والسياحة. فكلما زادت مزايا السفر كلما زادت مساوئ السياحة في المتخيل الجمعي لأنها تُجاور الممنوع والمحرّم في جل تمثلاتها [6] مما يعمق شقاء المهاجر وحيرته. السفر إلى الجنوب وتخومه حل وقتي ولكنه ناجع كما قال لي أحد السياح: “الصحراء عطلة من العطلة وهذا هو السر. نحن هنا… لذلك السبب”.
لكن… كيف تحكم “النية” والصور الثقافية تعامل أهل الجنوب مع السياح والمهاجرين الوافدين؟
هذا ما يجيب عنه مختار بوبا في الجزء الثاني، من خلال تفسير الأنساق الثقافية التي تسيطر على سكان أسامر، وتجعل بيع خدماتهم السياحيّة رهينًا عندهم بحسن الضّيافة والكرم. وهو ما يعطّل العمليّة السياحيّة بمعناها التجاري (المشروع)، كما تتعرض ذات العملية للارتباك وتفقد حسّها العملي والاحترافي، حين يسيطر عليها الشّرط الثّقافي أحيانا: كرم الضيافة.
* مختار بوبا، أستاذ الأصلانية والدراسات الثقافية بجامعة دارتموث، بالولايات المتحدة الأمريكية
هوامش:
[1]الجمعيات المحلية. السياحة التضامنية
[2]تعريب: Potential client
[3]انظر إحصائيات المكتب الوطني للسياحة.
[4]Cooperantsfrançais au Maroc
[5]Rogozen-Soltar, M. H. (2017). Spain unmoored: Migration, conversion, and the politics of Islam. P, 181
[6]De Haas, H. (2005). Migrants change the appearance of Morocco (No. 5). MDR Working Paper.
- الجزء الثاني: من الولايات المتحدة الأمريكية، الأكاديمي المغربي مختار بوبا يكتب لمرايانا:الجنوب وسياحة “النّية” 2/2
مقالات قد تثير اهتمامك:
- أسامر… الحُمولة الأيديولوجية لتسمية تقاوم تهميش المغرب الرّسمي! 1\2
- إلى جانب الفقر… “أستاذ بيدوفيل” يفجع أطفال أكثر المناطق تهميشاً بالجنُوب الشّرقي
- صحراء مرزوكة… حين كشفت “السّياحة الدّاخلية” عن جمالٍ يُخفي كوارث تنْموية! (صور) 1\2
- في غياب حلول بنيوية… يصبح موسم الثلج كابوسا سنويا لبعض المواطنين في المغرب! 1\2
- تاريخنا المجهول: مدينة البصرة المغربية… قصة ثاني عاصمة للأدارسة (صور)