عبد الإله أبعصيص: صناعة المعرفة… صناعة الجهل!
هل يستقيم “الفهم”… أي فهم، دون “معرفة”؟ فهم المجتمع وفهم السلطة. هل يستقيم تدبير مجتمع ما دون فهم؟ هل يستقيم تدبير سلطة ما دون فهم؟ بصيغة أخرى، هل يستقيم تدبير …
هل يستقيم “الفهم”… أي فهم، دون “معرفة”؟ فهم المجتمع وفهم السلطة.
هل يستقيم تدبير مجتمع ما دون فهم؟ هل يستقيم تدبير سلطة ما دون فهم؟ بصيغة أخرى، هل يستقيم تدبير مجتمع ما؛ دون معرفته؛ وهل يستقيم تدبير سلطة ما، أي سلطة، دون معرفتها؟
قد تبدو هذه المفاهيم بسيطة ومتقاربة: معرفة المجتمع ومعرفة السلطة. لكنها تحيل إلى مفاهيم مقابلة ومضادة أيضا: سلطة المعرفة؛ مجتمع المعرفة.
لنتفق بداية على مسلمة بديهية:
هل يستقيم تدبير مجتمع ما؛ دون معرفته؛ وهل يستقيم تدبير سلطة ما، أي سلطة، دون معرفتها؟
لا يمكن تدبير المجتمع ولا إدارة السلطة دون “معرفة”. لا يمكن العيش أصلا داخل مجتمع ما وتحت سلطة ما، دون معرفتها. لكن السؤال هو: عن أي معرفة يجب الحديث؟ هل “المعرفة العلمية” المبنية على البحث والدراسة أم “المعرفة” المصنعة والموجهة؟ أي المعرفة تحت الطلب.
إن معرفة المجتمع هي المدخل السليم “لحسن تدبيره”، وبالتالي فأي سلطة لا تبني “علاقاتها” مع المجتمع الذي تهيمن عليه على حسن المعرفة، لن تتمكن من خدمته على الوجه الأمثل؛ وبالتالي حيازة شرعية هيمنتها عليه. لذلك نجد في التاريخ القريب والبعيد لظاهرة الاستعمار أو الغزو، أن الدول المستعمرة أو الغازية، عملت على إرسال بعثاتها “للاستقصاء” والبحث لبناء معرفة تمكن من “حسن التدبير”، وبالتالي حسن الاستغلال.
اقرأ أيضا: الإبادة الثقافية: الفظاعة الناعمة للبشرية! (الجزء الأول)
” المعرفة” تؤدي إلى اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب (والمْعرفة بالمعنى الدارج تؤدي إلى اتخاذ القرار غير المناسب في الوقت غير المناسب). السياسات العمومية؛ اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية أو بيئية أو غيرها؛ ما لم تكن مبنية على “معرفة”، فهي لن تؤتي أثرها الذي من أجله سُطرت؛ فسياسة دولة ما، بما هي تدبير المجتمع لما فيه خيره (كما يقول أرسطو: “كل دولة هي بالبديهة اجتماع، وكل اجتماع لا يتألف إلا لخير”)، لا يمكن أن تبنى إلا على “المعرفة” أي “العلم”.
لا سياسات بدون “علم”، لا سياسات بدون معرفة.
مراكز البحث والدراسات المنتشرة على طول خريطة البلدان التي تجيد إدارة مجتمعاتها، مختبرات البحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مراكز التفكير وغيرها، ما أنشئت إلا من أجل فهم أمثل ومن أجل اقتراح الحلول المثلى والتدبير الأمثل.
اقرأ أيضا: أكثر صور الإبادة الثقافية انتشارا ومطالب دولية بتجريمها (الجزء الثاني)
“المعرفة” هي “المعلومة”، وهي ما يساعد على اتخاذ القرار. وإلا، فلماذا هذا التكتم الشديد على “المعلومة الحاسمة”. فالمعلومة “مال”، والمال هو صاحب القرار.
لا يمكن تدبير المجتمع ولا إدارة السلطة دون “معرفة”. لا يمكن العيش أصلا داخل مجتمع ما وتحت سلطة ما، دون معرفتها
إن الحديث هنا يستلزم الإقرار بأن صناعة المعرفة هي المدخل الطبيعي لحسن تدبير المجتمعات والسلط. وعلى النقيض من كل ما سبق، هناك حديث، بل هناك أمر واقع يشير إلى سيادة “صناعة الجهل”من أجل تدبير أمثل للمجتمعات والسلط.
فغاية “السياسي” ليس التدبير الأمثل كما هو “معلن” للمجتمع والسلطة، بل غايته الحفاظ الأمثل على “استقرار المجتمع” الذي يؤدي بدوره لاستقرار السلطة. “ميشيل فوكو Michel Foucault” أشار إلى مفهوم “معارف أو تقنيات السلطة” والتي يقصد بها “التقنيات التي ستمكن الدولة من إدارة الأقاليم والشعوب، وهو ما سيغير بحسبه بشكل كبير طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع بحيث تصبح الشرعية هي “حفظ النظام”؛ وبالتالي فالمعرفة هنا غايتها هي غاية “السياسي”: حفظ النظام، بأبعاده الشاملة: الصحة العامة والأمن العام والاحتياجات العامة بمرتبة ثالثة.
أي سلطة لا تبني “علاقاتها” مع المجتمع الذي تهيمن عليه على حسن المعرفة، لن تتمكن من خدمته على الوجه الأمثل؛ وبالتالي حيازة شرعية هيمنتها عليه
من هذا المنطلق، فإن صناعة الجهل لها نفس غايات معارف السلطة: حفظ النظام واستقرار المجتمع. بمعنى أوضح، استمرار سيطرة حائز السلطة على سلطته. لا حاجة للتأكيد هنا على أن المقصود بالسلطة والمجتمع هو كل جماعة منظمة وخاضعة لسلطة ما. قد تكون دولة أو جمعية أو حزبا أو نقابة أو جماعة دينية أو غيره، فحيثما تكون “المنظمة” بالمعنى البيروقراطي الذي يتحدث عنه “ماكس فيبر Max Weber” تكون السلطة؛ وحيثما تكون السلطة يكون هم الحفاظ عليها هو الهاجس الأكبر لمن يحوزها، وبكل الوسائل، إما بصناعة المعرفة أو بصناعة الجهل.
اقرأ لنفس الكاتب: شرعية “البنية” أو شرعية القهر؟
لقد كان السبق للأمريكيين “روبير بروكتور Robert proctor ” و”دانينغ” في الإشارة إلى خطورة الأمر بداية مع الشركات التجارية، ولاحقا مع المجالات السياسية والاقتصادية.
خلاصة القول هو أن تدبير المجتمعات والسلط قد يكون مدخله السليم من جهتين، إما من باب مجتمع المعرفة أي من باب صناعة العلم؛ كما قد يكون، كما هو الأمر الواقع اليوم، من باب صناعة الجهل والتفاهة. فالرواج اليوم للجهل وصناعه؛ والسيطرة على العالم حسمت، حتى الآن، “للتافهين”.