ابن السيد البطليوسي ومحاولتهُ التوفيق بين الفلسفة والدين
كان زمن البطليوسي عصر تشددٍ ونفور من الفلسفة وعلومها، أمام هيمنة موقف الفقهاء وعلماء الكلام الأشاعرة، فجاء كتاب “الحدائق” محاولةٌ للتوفيق بين النظريات الفلسفية والشريعة الدينية.
محاولةٌ لم يكن ليوافق عليها فقهاء المالكية، خصوصا أنه ناقش فيه نظرية الفيضِ التي تقابلها نظرية الخلقِ، كما اعتبر التأمل الفلسفي في منزلة التأمل الديني يعبران عن حقيقة واحدة.
عرفَ الأندلس الفلسفة اليونانية من خلال مؤلفات فلاسفة المشرق، أمثال الفارابي وابن سينا ورسائل إخوان الصفا، وقد كان لها الأثر الكبيرُ في تشكل تقاليد فلسفية ميزت المشتغلين بها في الغرب الإسلامي.
رغم ما نقلهُ صاعد الأندلسي، مؤرخُ الأندلس، في كتابه البديع طبقات الأمم، بأن الأندلس كانت قبل فتحها من طرف المسلمين خاليةٌ من العلم، “ولم تزل على ذلك عاطلةٌ من الحكمة إلى أن إفتتحها المسلمون في شهر رمضان سنة اثنين وتسعين من الهجرة (711م)”[1]، رغم هذه الشهادة، فإن زمن الطوائف شهد إنتشاراً نسبيا للعلوم وخاصة علوم الحساب والفلك والمنطق؛ تنافس ملوك الطوائف في العناية بها وتنظيم مجالسَ للعلماء، واشتهرت بذلك مدنٌ منها سرقسطة وقرطبة وغرناطة وإشبيلية… ونُسِبَ كل عالمٍ لحاضرته، فهذا السرقسطي وذاك الغرناطي والأخر القرطبي…
في هذا العصر، بزغ نجمُ أديبٍ وكاتبٍ مرموقٍ هو ابن السيد البطليوسي (444ه/521ه)، من أشهر علماء الأندلس في اللغة والنحو. ترجم له الأديب الفتح ابن خاقان وقال: “هو شيخُ المعارفِ وإمامُها، ومن في يده زمامُها”[2].
كما اعتنى أيضا بالفلسفة، وهي جانب من تكوينه الفكري لم يهتم كثيرٌ من الباحثين في تراث ابن السيد بإبرازه. ربما يعود ذلك إلى قلة تأليفه في الفلسفة، لأن الكتاب الوحيد الذي وصلنا من تأليفه الفلسفي هو كتاب “الحدائقِ في المَطالبِ العاليةِ الفلسفيةِ العَوِيصَةِ”، ضمَّنهُ آراءهُ في الفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة أفلاطون وأرسطو.
لذلك، يمكن اعتبار كتاب “الحدائق” لابن السيد البطليوسي مؤلفاً يؤسسُ لأول محاولة للكتابة الفلسفية النسقيةِ بالأندلس، محاولةٌ لم يكتب لها الإستمرار بسبب الظروف التي سادت في عصر الطوائف وزمن المرابطين الذي عاش فيه البطليوسي الثلث الأخير من حياته؛ حيث ساد التضييق على كل تفكير مخالفٍ للمذهب المالكي وفروعه.
لقد كان زمن البطليوسي عصر تشددٍ ونفور من الفلسفة وعلومها، أمام هيمنة موقف الفقهاء وعلماء الكلام الأشاعرة، فجاء كتاب “الحدائق” محاولةٌ للتوفيق بين النظريات الفلسفية والشريعة الدينية. محاولةٌ لم يكن ليوافق عليها فقهاء المالكية، خصوصا أنه ناقش فيه نظرية الفيضِ التي تقابلها نظرية الخلقِ، كما اعتبر التأمل الفلسفي في منزلة التأمل الديني يعبران عن حقيقة واحدة.
تحكي كتب التاريخ أن الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، المعروف بزهده وتقواه ونفوره من علوم الأوائل وعلم الكلام والجدل، كتب إلى عماله في البلاد يمنع الخوض في علم الكلام ومعاقبة من وُجِدَ عنده شيء من كتبه، وأمر بإحراق كتب الإمام الغزالي بالمغرب والأندلس.
جوٌ لم يكن يشجعُ المشتغلين بالفلسفة وعلومها، ما جعل أغلبهم يتجنب الخوض فيها، وينصرفُ للأدب واللغة والشعر وعلوم الدين حذراً من اتهامه في دينه وتحريض الناس عليه. لذلك، ألف البطليوسي الكثير في الأدب واللغة حتى عُرِفَ بلقب الأديب اللغوي بدل لقبِ الحكيم أو الفيلسوف؛ وهو ليس استثناء، بل الكثير من العلماء بالأندلس عاشوا نفس المحنة والتجربة، منهم مالك بن وهيب الإشبيلي، فيلسوفٌ مرمُوقٌ، لكنه امتنع عن النظر في علومها وتجنَّبَ التكلم فيها في الظاهر أمام الناس، بسبب المطالبة بدمه، وأقبل على علوم الشريعة التي نبغ في معارفها.[3]
مثالٌ آخر للتضييق على الفلاسفة في زمن البطليوسي، هو معاصرهُ وأحد أشهر فلاسفة الأندلس، ابن باجة السرقسطي الذي تطرقنا لمساره وفلسفته في مقال سابق على مرايانا، والذي دفع ثمناً باهضاً لاشتغاله بالفلسفة، حيث اتهم في دينة وشوهت سيرته[4]، وقال فيه أحد خُصومه: “هو رَمَدُ جفنِ الدين وكمدُ نفوس المهتدين اشتهر سُخفاً وجنوناً وهجر مفروضاً ومسنوناً…”[5].
كتاب “الحدائق” لابن السيد البطليوسي مجهولٌ غير معروف لكثير من الباحثين، حققه ونشره لأول مرة، الإسباني اسين بلاثيوس، مع ترجمته للإسبانية سنة 1940، وقيمته في أنه يكشفُ حضوراً للأفلاطونية المحدثة بالغرب الإسلامي، ومصدرٌ اجتمعت فيه معارف كثيرةٌ عرض من خلالها تصوره لنظرية الفيض وأحاط فيه بأبعادها الأصولية والفقهية والكلامية؛ كل ذلك في أسلوبٍ ممتع يجمع بين جمال العبارة وعمق الفكرة، من أجل الدفاع عن الفلسفة والفلاسفة ودعوتهُ للتقارب والتوفيق بين الحكمة والشريعة، مستدلا بنصوص فلسفية ودينية.
خلاصة القول أن كتاب “الحدائق” كان محاولة لتبسيط النظريات الفلسفية وتقديمها للناس في لغة أدبية جميلة وأسلوب بديع، بحث فيه قضايا فلسفية وكلامية مهمة، تعكسُ البيئة الثقافية والفلسفية والدينية التي سادت في الأندلس بين القرن الخامس والسادس الهجريين.
المصادر والمراجع:
-البطليوسي، ابن السيد، الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة، اعتنى به رضوان الداية، ط1، دار الفكر، دمشق، 1988.
-ابن باجه، أبوبكر، رسائل ابن باجه الإلهية، تحقيق ماجد فخري، دار النهار، بيروت، 1968.
-الأندلسي، صاعد، طبقات الأمم، نشره الأب لويس شيخور اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1912.
-راشق، جمال، ابن باجه سيرة وأعمال، دار النشر فضاء أدم، ط1، مراكش، 2016.
-بوشتلة، محمد صلاح، ترجمة الفيلسوف المشوهة: عن ترجمة الفتح بن خاقان لأبي بكر بن باجه، مجلة المرصد العلمي، جامعة وهران، الجزائر، المجلد 6، العدد1، يناير، 2019، ص ص225-236.
-KHERBACH.yahya, le neoplatonisme dans l’occident islamique, traduction et commentaire de –KITAB AL-HADA’IQ-D’ABN AL-SID AL-BATLAYAWSI, sous la direction du professeur :Jamal RACHAK,THESE POUR L’OBTENTION DU: DOCTORAT,UNIVERSITE CADI AYYAD MARRAKECH,2019-2020
[1] – صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، ص62
[2] – الفتح ابن خاقان، قلائد العقيان، ص202
[3] – رسائل ابن باجه الإلهية، ص176
[3] – محمد صلاح بوشتلة، ترجمة الفيلسوف المشوهة: عن ترجمة الفتح ابن خاقان لابي بكر ابن باجه، ص225
[5] – الفتح ابن خاقان، قلائد العقيان، ص313.
مقالات قد تهمك:
- تُرجم إلى لغات كثيرة وهمشه المسلمون: ابن طفيل مبدع “حي بن يقظان” 1/2
- “حي بن يقظان”… ابن طفيل يفكك علاقة الفلسفة بالدين 2/2
- موقف ابن رشد الأندلسي من صورة الجنة والنار في الخطاب الديني
- أبو حيان التوحيدي: كتب بجرأة كبيرة وانتهى إلى حرق معظم كتبه
- حسين الوادعي: لنتعلم التسامح من الشيخ الغزالي!
- حسن الحو يكتب: بين الدين والعلم… الحل في الفصل!
شكرا استاذنا البلغيتي على هذه المقالات الجميلة والجليلة التي ترشدنا بها لجواهر تاريخنا الفكري العلمي والادبي.. وفقك الله