من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: بوح “النمر المقنع”
نحّى مسودّة مقاله الأسبوعي جانبا، وأجّل متعة التشهير والخوض في أعراض السياسيين والصحفيين والحقوقيين المعارضين، وفضل أن يبوح من خلال السطور أدناه.
كان كل الصحفيين يملكون الإجابة على سؤال المدير العام للجريدة. لكن لا أحد كان يملك الجرأة الكافية ليشرح لفخامته السبب الذي جعل الناس يلقبونه بـ”النمر المقنع”.
بعد الاجتماع، اختلى به أحد الصحفيين المتدربين، وهو يعلم أن مهمته ستكون صعبة، وقال له بوجه يكسوه الشحوب أن النمر المقنع هو شخصية كرتونية شهيرة لصحفي فاشل، يتنكر ليلا بقناع نمر، ويتوجه كل أسبوع مسرعا نحو حلبة المصارعة من أجل أن يقول جملته الشهيرة: “سأخلص الحلبة من كل الشرور”.
“ومن أفشل منك… صحفي ساذج غبي، تقول الحقيقة القاسية في وجه من هو أعلى سلطة منك”. هكذا، علق المدير بكل برود على كلام الصحفي المتدرب قبل أن يطرده.
لكنه فهم المغزى من اللقب، وانسحب بهدوء نحو مكتبه وهو يحدث نفسه.
اقرأ لنفس الكاتب: عاشت الولايات المتحدة “السَّنفورية”…
نحّى مسودّة مقاله الأسبوعي جانبا، وأجّل متعة التشهير والخوض في أعراض السياسيين والصحفيين والحقوقيين المعارضين، وفضل أن يبوح من خلال السطور أدناه.
“…قولوا عني ما شئتم، سموني بما شئتم… أما أنا فلست نادما أبدا، بل إنني فخور بكل ما فعلت، وسيأتي عليكم اليوم الذي تدركون فيه سفاهة الأقاويل التي تدعي أنني مجرد أداة تشويه وتشهير مخابراتية، وستفهمون عندها أني لم أفعل ما أثار غضبكم إلا من أجل مصلحة الوطن.
لم يفهموا أن الحياة أجمل من أن يضيعوها في محاولة تغيير حال شعب لا يحتاج إلى العدالة، لأنه ببساطة لم يعرفها قط
العالم ليس مكانا تتحقق فيه العدالة. وعلى هذه الأرض، لا ولم ولن توجد أبدا مدينة فاضلة.
لذلك، كان يجب التشهير بهم ولو بالباطل، كان يجب إسكاتهم ولو رغما عنهم، لكي يتحقق الاستقرار، بدلا من أن تشعل كلماتهم البلاد وتلهب مشاعر البسطاء المسحوقين وتهددنا بفوضى عارمة ندفع ثمنها غاليا.
لا أنكر أنني تألمت عندما رأيت الأصفاد في أيدي بعضهم. وبالطبع تحسرت حين رأيت بعضهم يُنفون خارج البلاد أو يغتالون معنويا. لم أكن أحب أن تصل بهم الأمور إلى هذا الحد…
لكنني توقفت سريعا عن لوم نفسي عندما تذكرت الحقيقة المرة التي لن تعترفوا بها أبدا: حقيقة أن عنادهم وإصرارهم على أن يحققوا أحلامهم الوردية هو الذي أودى بهم إلى هذا المصير. كان عليهم أن يتحملوا ثمن رفضهم كل رسائلي المشفّرة، وتهديداتي المبطّنة ما بين سطور مقالاتي، والتي كانت تنذرهم بقدوم الطوفان، وبألا يذهبوا إلى أبعد مدى في عدائهم مع من يملكون القدرة على إيذائهم.
لكنهم كانوا منتشين بتصفيق الجماهير، ولم يستجيبوا لتحذيراتي بأن يتوقفوا عن تهييج العامة وإثارة مشاعر البسطاء وزعزعة الاستقرار، وكانوا يرددون دائما بأنهم لا يملكون إلا أفكارا يخطونها على ورق أو كلمات يلقونها ويمضون، مع أنهم كانوا يعلمون أن كلماتهم توقد النار في صدور المحرومين والمتعطشين لاسترداد ما يظنونه حقوقهم.
اقرأ أيضا: عمر لبشيريت يكتب: مبعدون بلا ضجيج… حكاية خمسين درهما بالمنفى
هي حقوقهم بالفعل. فليكن، ما الذي استفادوه إذن بتذكيرهم بها؟
هل كانوا يظنون أن علية القوم ستقف مكتوفة الأيدي وهم يخرِجون إلى العلن دلائل عن الفساد والتوزيع غير العادل للثروات، ويدينون عدم تكافؤ الفرص، ويفضحون ديناصورات الريع السياسي والاقتصادي؟
ألم يكونوا يدركون خطورة هذا الكلام على السلم الاجتماعي والاستقرار؟ هل كانوا يعتقدون أن نبرتهم الهادئة المتعقلة ستليّن لهم القلوب الغليظة؟
هذا قانون حياتنا، هذا قدرنا، وعلينا أن نكون في مستوى أن نحياه، بعيدا عن أي حلم غبي بعالم يكون فيه من حق الفقير أن ينازع الغني، ويحاسب الحاكم، ويعبر بكل حرية عن أحلامه وكوابيسه
دعكم من كل هذا.
أين ذهب زملاؤهم من أشباه السياسيين والصحفيين والحقوقيين حين احتاجوا إليهم؟ ألم تروا بعضهم كيف غض البصر لكي لا يروا هول ما يحدث لهم؟ ألم تروا كيف وقف بعضهم الآخر يتفرج صامتا مذعنا لكي لا يدفع ثمن رفضه لما يجري؟ بل منهم من شارك بالتصفيق والمباركة والتأييد لما يجري.
أما الشعب الذين كان يهلل لحديثهم عن العدل، فأغلبه التزم الصمت حين تأكد له أن الحال سيبقى على ماهو عليه، وبأنهم لا يملكون ما يقدمونه له سوى سجنهم أو نفيهم خارج البلاد.
فليجربوا إذن وحشة الزنازن ومرارة النفي وهتك العرض دون أن يبكي عليهم أحد. عندها فقط سيفهمون وجهه نظري، وأنني جنبت وطني فتنة لم تكن لتفضي إلى أي تغيير أو إصلاح.
اقرأ أيضا: كوثر بوبكار تكتب: باسم الشعب… أي شعب؟
لم يفهموا أن الحياة أجمل من أن يضيعوها في محاولة تغيير حال شعب لا يحتاج إلى العدالة، لأنه ببساطة لم يعرفها قط. لقد نشأ وعاش حياته في ظل الظلم، وهو مقتنع تماما بأن الأقوى يفعل ما بدا له، ولن يكف يوما عن سرقته في كل الأحوال. لقد يئس تماما من تحقيق العدل، وتعلم كيف يتعايش مع الظلم حتى يحصل على الحد الأدنى من حقوقه… وأي محاولة تغيير قد تهدد حياته المستقرة التي ألفه،ا سيناصبها العداء، لأنها لا تقدم له حلا فوريا.
هذا قانون حياتنا، هذا قدرنا، وعلينا أن نكون في مستوى أن نحياه، بعيدا عن أي حلم غبي بعالم يكون فيه من حق الفقير أن ينازع الغني، ويحاسب الحاكم، ويعبر بكل حرية عن أحلامه وكوابيسه.
كان يجب التشهير بهم ولو بالباطل. كان يجب إسكاتهم ولو رغما عنهم، لكي يتحقق الاستقرار، بدلا من أن تشعل كلماتهم البلاد وتلهب مشاعر البسطاء المسحوقين وتهددنا بفوضى عارمة ندفع ثمنها غاليا
فلتشكروني إذن، لأنني حاربت حماقاتهم وغباءهم، ليتركوا لنا عالمنا نعيش فيه كما ألفناه، قبل أن يسمموه بأفكارهم التي لم تعد بعدها حياتنا هانئة كما كانت.
صدقوني كان يجب أن نطردهم من حياتنا… كان لابد أن نكتم أصواتهم بأي وسيلة كانت! صدقوني كان لابد أن نقتل أحلامهم لكي نحيا بسلام.”
بعد هذا البوح، لُقّب صاحبنا ب”ماوكلي”، الآدمي الذي تربي في الأدغال واكتسب خصال الذئاب وطبّع مع قانون الغاب.
انا طبعا لست متفقا بتاتا مع هذا اللقب، تضامنا مع العزيز “ماوكلي” الذي تكبد عناء الصراع مع محيطه المتوحش، لينال شرف الانتصار لإنسانيته بعد رحلة طويلة من المتاعب.
اقرأ لنفس الكاتب: رسالة الجندي المجهول إلى السفيرة “هيلين”