كوثر بوبكار، من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم، تكتب: ما بعد الحقيقة…
أكيد أن الكذب وتزوير الحقائق، لأهداف سياسية، قديم قدم التاريخ وليس وليد اليوم؛ لكن المستجد هو تصاعد عدد الأكاذيب والقدرة على تسويقها عالميا في ثوان.
أصبح لكل واحد اليوم حقيقته وتأويله للوقائع انطلاقا من رأيه، بعيدا عن الحقيقة الصادرة من المؤسسات والنخب، التي أصبحت غير مسموعة، بل ومحل تشكيك متواصل أكثر من بعض النظريات التآمرية.
يعتمد الاشتغال الفعال للديمقراطية على النقاش المرتكز على تبادل الأفكار والحجاج حولها، أو باختصار علوم الكلام والمنطق. غير أننا نعيش اليوم مرحلة تاريخية، فقدت فيها الحقيقة قيمتها. مرحلة أصبح يصطلح عليها “عصر ما بعد الحقيقة”، حيث لم يعد للحقيقة الموضوعية أو العلمية إلا تأثير ثانوي في تكوين الرأي العام، مقابل انتشار كبير للأخبار الزائفة، والاستدلالات المتهافتة. وهذا يضع الديمقراطية كنظام أمام خطر ينخرها من الداخل، خطر انتشار الهراء والنظريات التآمرية والأخبار الزائفة والتلاعب بعقول الجماهير المفتوح على العالم. كيف؟
أصبح العالم قرية صغيرة، والسياسة الداخلية للدول مرتبطة بشكل كبير بالعالم الخارجي، حيث أن الشبكة العنكبوتية، تسمح -على الأقل- تقنيا بالتأثير على آراء الناخبين ومن خلالهم على مسار الأحداث السياسية في دولة ما.
لا أحد يستطيع أن ينكر الاستعمال المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على اختيارات الناخبين، سواء من خلال الحملات الرسمية للمرشحين، حيث وصل المبلغ اليومي الذي كلفته الحملة الانتخابية على صفحات وسائل التواصل لكل من بايدن وترامب على حدة، أحد عشر مليون دولار يوميا في أوج الحملة، أو من خلال تدخلات خارجية، في إطار حروب رقمية قائمة على القرصنة ونشر تسريبات قد تصل حد تفاصيل حميمية للمواطنين (كما حدث مع بنجامين كريفو في حملة انتخابات عمدة باريس في فرنسا، الأمر الذي اضطره إلى سحب ترشيحه) والأخبار الزائفة وتجنيد الذباب وما إلى ذلك.
لا عجب إذن أن نرى دولا عريقة في الممارسة الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تخصص ميزانية وجهدا غير هينين للتحقيق في امكانية تدخلات خارجية في حملاتها الانتخابية الرقمية.
هذا الوضع يدفعنا لطرح السؤال التالي: هل تساهم هذه التقنيات، عبر تعميم القدرة على إبداء الرأي، في ترسيخ ثقافة حرية التعبير والديمقراطية؟ أم أنها تفرغها من قيمتها بإغراق الحقيقة الموضوعية بكم هائل من المعلومات المتضاربة؟ إذ انه لا جدوى من النقاش إذا فقدت الحقيقة فيه بمختلف تشكيلاتها (العلمية السياسية، التاريخية…) قيمتها، ولا أمل يرتجى في الخيار الديمقراطي إذا كانت عقول المواطنين يمكن التأثير عليها من جهات خارجية بسهولة.
في سوق “الكلمات الكبير” هذا، انغلقت جل النخب الحاملة لخطاب موضوعي صادق على نفسها، وتركت بذلك المجال مفتوحا، أمام النخب الفاسدة التي انحازت للتيار الشعبوي، والمتلاعبين بالعقول، الذين لا نستطيع أن نقول إنهم يؤسسون للجهل، بقدر ما يستغلون جهلا ناتجا عن غياب تعليم جيد منذ سنين، لتحقيق مكاسب لهم.
أكيد أن الكذب وتزوير الحقائق، لأهداف سياسية، قديم قدم التاريخ وليس وليد اليوم؛ لكن المستجد هو تصاعد عدد الأكاذيب والقدرة على تسويقها عالميا في ثوان.
أصبح لكل واحد اليوم حقيقته وتأويله للوقائع انطلاقا من رأيه، بعيدا عن الحقيقة الصادرة من المؤسسات والنخب، التي أصبحت غير مسموعة، بل ومحل تشكيك متواصل أكثر من بعض النظريات التآمرية.
أزمة الحقيقة هذه تعكس أزمة أعمق، وهي أزمة الثقة في النخب والمؤسسات ووسائل الإعلام بمختلف مكوناتها.
الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وضعف وتيرة التقدم، كلها عناصر زادت من حدة الوضع الاقتصادي ومعه، حدة الاستياء عند فئات كبيرة من المجتمع أصبحت تحمل النخبة كامل المسؤولية في هذا الوضع ولا تثق في قدرتها على بناء غد أفضل.
اقرأ أيضا: من فرنسا، الباحث السوري وسام الناصر يكتب: الوجه الآخر لفيسبوك: مستنقع الكراهِية والعدوانيّة
أزمة الثقة هذه بلغت حتى الحركات الاحتجاجية، اذ نجد مثلا تكتلات عديدة تقوم على معارضة واقع اقتصادي أو سياسي معين وتعبر عن غضبها الذي قد يبلغ أحيانا درجة الحقد على الطبقة المسيرة أو الميسورة؛ لكن يصعب بشكل كبير أن يبزغ من داخل هذه الحركات فئة تمثيلية تدافع عن أهدافها، لأسباب متعددة من بينها أزمة الثقة بين أعضائها. (السترات الصفر مثال على هذا).
سيقول لنا البعض إنه لا يمكن أن ننفي وجود أيقونات بزغت، سواء افتراضيا أو من خلال حركات احتجاجية على أرض الواقع، وتعتبر نفسها أو يعتبرها البعض تمثل صوتا يتحدث باسم الشعب أو باسم فئة منه على الاقل، رغم أنها لم تخضع يوما لاختبار صناديق الاقتراع.
سنجيب هؤلاء أننا نؤمن أن بزوغ هذه الأيقونات، لا يتعدى البحث عن خلق أبطال وهميين، إذ أن الانخراط معهم لا يتجاوز سقف المعارضة المشتركة والمتواصلة والتعبير عن الاستياء، ولا يصل حد المحاولة لتأسيس كتلة منخرطة بشكل فعال، تنتج أفكارًا بناءة.
ونحن نرى في البحث عن خلق أبطال، عرضا من أعراض خلل في المجتمع: في المجتمع الصحي المتماسك، يعتبر غالبية الأفراد أنفسهم أبطالا منتجين كل من مكانه، حسب قدراته ومهاراته وإمكانياته، بينما في المجتمع الهش، نجد الغالبية تبحث عن أيقونات معارضة كي تفرج من خلالها على ضغط الواقع المعيش، دون أن تنخرط في بناء بديل أفضل، بل غالبا ما تجدها مستعدة أن تضحي بهؤلاء الابطال وتقدمهم أكباش فداء إن اقتضى الأمر.
هل بلغنا مرحلة من التشكيك صار فيها كل شخص يمثل نفسه، ويتحدث باسمه؟ إن صح الأمر فهذا يطرح التساؤل بخصوص مستقبل التمثيلية كنموذج للديمقراطية.
كيف يمكن أن نطمح إلى مجتمع ديمقراطي مزدهر خارج قدر من الثقة المسبقة في المنتخبين؟ قدر من الثقة لا يغيب ضرورة اليقظة والمراقبة من خلال السبل المتاحة قانونيا وأخلاقيا.
يجب أن نقف مع الذات بصدق، وأن نقول إن النخبة، بمختلف مكوناتها، تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية بخصوص أزمة الثقة هذه.
نحن في حاجة اليوم إلى أن يلعب المفكر والمثقف دورا في تفكيك المعرفة، بشكل يقربها من مختلف فئات المجتمع أكثر من الماضي، لكن، من خلال عقد أخلاقي يبرمه مع قرائه ومتابعيه، يتعهد فيه بعدم قول أي شيء زائف عن قصد، أو دون تحقيق، وعدم خداع المتلقي لمصالح ذاتية، وأن لا يتهرب من مناقشة منتوجه الفكري مع ذوي الخبرة في المجال.
الكذب والتدليس رافق بعض المثقفين والفقهاء بل وحتى العلماء عبر التاريخ، إذ نجد فقهاء السلاطين، فلاسفة نظروا وأيدوا النازية والفاشية، ومثقفين دافعوا عن ايديولوجية ما بتزوير وقائع تاريخية.
هذا بخصوص الأفراد، لكن المؤسسات أيضا، تتحمل جزءا من المسؤولية في فقدان الثقة بها، بسبب أخطاء التسيير والتواصل ومختلف الممارسات الفاسدة التي تحاسب عليها اليوم.
حتى المؤسسات العلمية لا تنجو بدورها من مسؤولية، فمثلا، فضيحة نشر الجريدة العلمية المرموقة “ذو لانسيت” مؤخرا لبحث كاذب حول خطر استعمال أحد الأدوية، ساهم بشكل كبير في تقليص هامش ثقة العموم في مصداقية منشورات أخرى، بل وفي نظريات علمية ككل.
ونحن نرى بشكل يومي، تزايد الأصوات حول نظريات المؤامرة والتشكيك في اللقاحات والأدوية بمختلف أنواعها، وفي العلوم عامة، حيث أصبح أغلب من يفتي ويدلي برأيه، لا يمتلك بالضرورة الخبرة اللازمة لذلك، فهذا لا يهم عند من يقيم الآراء بحسب عدد المتابعين ونقرات الإعجاب. خلاصة القول، إن البعض يخلط بين المساواة في القدرة على الإدلاء بالرأي والمساواة في قيمة الرأي معرفيا.
اقرأ أيضا: استخدام المغاربة للشبكات الاجتماعية… حينما يصبح الافتراضي واقعا!
هكذا… أصبحت معظم الخطابات توجه نحو الايمانيات، تخاطب المشاعر بدل العقول، بأساليب خطابية متهافتة في الحجة. والحديث الذي قد يأتي خارج هذا السياق، هو غالبا صادر عن النخبة التي وسمت بالفساد وأصبحت غير مسموعة. في سوق “الكلمات الكبير” هذا، انغلقت جل النخب الحاملة لخطاب موضوعي صادق على نفسها، وتركت بذلك المجال مفتوحا، أمام النخب الفاسدة التي انحازت للتيار الشعبوي، والمتلاعبين بالعقول، الذين لا نستطيع أن نقول إنهم يؤسسون للجهل، بقدر ما يستغلون جهلا ناتجا عن غياب للتعليم الجيد منذ سنين لتحقيق مكاسب لهم.
هنا نفتح قوسا لتوضيح أن بعض من يقدم نفسه على أنه منور للعقول، مبسط للمفاهيم، ومزيل للغموض حول تعقيدات الأمور، قد يكون في الواقع مزيفًا، وبدلاً من تحرير جمهوره، كما يدعي، يتلاعب بهم. لقد فوجئنا أحيانا بالاتجاه نحو التزييف والخداع في كتابة بعض من رأينا فيهم أملا لنشر الفضول المعرفي، فأرجعنا الأمر في الأول إلى زلات وأخطاء عابرة، لكن مع الوقت، اتضح أن قائمة الأخطاء والتلاعب لا حصر لها. والأسوء، أنه يجب على المتلقي أن يمتلك أدوات معرفية وفكرية، ليفهم على الفور أنه لا شيء مما يكتبه هؤلاء جاء من مصدر موثوق، ولكنه مستمد في الغالب من تقليد لبعض المنشورات، خاصة المتطرفة منها، حيث إن التطرف الأيديولوجي بمختلف تجسيداته، أصبح تجارة مربحة للأسف. وغالبا ما يرفض هذا النوع من المدلسين جدال الأكاديميين ويتهمونهم بالانغلاق على أنفسهم في تشكلات انتقائية يريدون مقاطعتها لصالح البسطاء من الشعب.
كم مؤسف أن يؤدي بعض من يزعم التنوير بخطاباته، إلى إبعاد متابعيه عن كل الأدوات والآليات التي تسمح بالمناقشة على أساس معايير متفق عليها، بشكل موضوعي قائم على التساؤل من أجل الحقيقة أيا كانت، وأن يؤسس بعض من يعول عليه أناس بسطاء معرفيا، لتقريبهم إلى تكوين فكرة ما، إلى إعطاب ملكة التفكير السليم ككل لديهم.
هنا نغلق هذا القوس بالقول، إننا نرى أن هؤلاء المدلسين، يهدفون إلى مشروع قائم على تدمير نظام الحجة الموضوعية، والتأسيس لجدالات متهافتة قائمة على تزوير المصادر وتمويهها، ما يترتب عنه فقدان الثقة في الطبيعة التحررية للمعرفة، واستخدام العقل بشكل عام.
كيف يمكن للسلطة الرابعة، الضرورية في أي بلد ديمقراطي أو يصبو نحو الديمقراطية، أن تكون قوية وتمارس مهنتها دون أن تسقط في الهشاشة الاقتصادية، في ظل تزايد مهول لخطابات تآمرية، لا تهتم بالتدقيق في صحة ومصدر الخبر، بقدر ما يهمها جلب الانتباه بشكل يدر عليهم ربحا ماديا جيدا؟
باختصار… هم يريدون تدمير الأدوات التي تضمن الصدق والشفافية اللازمين لوجود نقاش ديمقراطي والمشاركة فيه.
اليوم تشكل جائحة كورونا منعطفا هاما في هذا السياق، حيث إضافة الى الهوة المتزايدة باستمرار بين النخبة والطبقة البسيطة معرفيا من الشعب، وارتفاع فقدان الثقة بينهما، المرض… سلط الضوء عند كل فئة على الخطر الذي قد تشكله الأخرى عليها بشكل واضح ومستعجل.
فنجد النخبة… ترى في من ينفي وجود الفيروس وأخطاره وينخرط في نظريات تآمرية بخصوصه، قنبلة فيروسية موقوتة، ستزيد من تفاقم الوضع الصحي ما قد يشكل خطرا على الجميع، إذا ما انتشر الفيروس بسرعة وتطور بشكل يعقد امكانية إيجاد لقاح فعال ضده. الفئة غير المؤمنة بالمرض، ترى في النخبة خصما يحاول فرض التلقيح عليها، للسيطرة عليها ومراقبتها والتحكم في قدرتها على الإنجاب.
نحن في حاجة اليوم إلى أن يلعب المفكر والمثقف دورا في تفكيك المعرفة، بشكل يقربها من مختلف فئات المجتمع أكثر من الماضي، لكن، من خلال عقد أخلاقي يبرمه مع قرائه ومتابعيه، يتعهد فيه بعدم قول أي شيء زائف عن قصد، أو دون تحقيق، وعدم خداع المتلقي لمصالح ذاتية، وأن لا يتهرب من مناقشة منتوجه الفكري مع ذوي الخبرة في المجال.
هل الاعتماد على انخراط المثقفين بشكل إيجابي فقط هو الحل أمام هذا الوضع، الأقل ما يمكن القول بخصوصه، إنه مقلق؟
أصوات كثيرة ترى جزء من الحل، في تقنين أكثر صرامة لوسائل التواصل الاجتماعي، انطلاقا من أنها تساهم بشكل كبير في انتشار المعلومات الخاطئة والمزيفة عن قصد، وخلق نوع من الهلوسة الجماعية عند بعض مستعمليها.
اقرأ أيضا: تيك توك، إنستغرام، سناب شات… هوس الشهرة و “غزو الحمقى”
الواقع… أنه عوض أن تساعد هذه الشبكات على خلق جو تواصلي يسمح بتقريب المسافات بين الشعوب والربط بينها، نجد أنها ساهمت في الانغلاق على الذات بشكل أكبر، وهو ما نلاحظه من خلال تصاعد الجدارات الافتراضية المروجة لخطابات هوياتية متطرفة، ترجم بعضها، للأسف، إلى جدارات حقيقية على الحدود بين الشعوب.
إمكانية التواصل لا تعني دائما الانسجام، فهذا الأخير مرتبط بطبيعة التواصل وجودته؛ التواصل بدون ضوابط قد يؤدي أحيانا إلى تسليط الضوء بشكل أكبر على نقاط الاختلاف، والانغلاق على الذات في محاولة للحفاظ على الموقف والهوية التي يشكل الانفتاح على الآخر خطرا عليهما.
هذا النوع من التواصل، هو ما روجت له الشبكات الرقمية من خلال طبيعتها، فإذا نظرنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى خوارزميات هذه الوسائل، سنجد أنها تغلق المستعمل في نوع من الجزر الافتراضية القائمة على نفس الميولات، وهذا يساهم في تشبع المستخدمين بمواقفهم أكثر، من خلال ميكانيزمية ما يعرف بـ “الانحياز التأكيدي”.
نحن واعون أن المطالبة بتقنين أكبر لهذه الشبكات، يضمر في باطنه مطالبة بتقليص هامش الحريات عليها، وهذا ما قد يفضي لممارسات غير ديمقراطية؛ لكن… إذا تمعنا في الوضع، سنجد أن هذه الشبكات نفسها، تقوم بعمليات حظر متكررة لما تراه لا يتناسب وقوانينها المتغيرة باستمرار، مقلصة بهذا حريات استعمالها، وكأنها تتماهى بذلك مع ممارسة الناشر الذي، لا يسمح بنشر إلا مع ما يوافق خطه التحريري.
إن كان من حق هذه الشبكات أن تنتقي ما ينشر عليها، حسب قوانين تسنها كما تريد، فإننا نرى أن عليها بالمقابل أيضا، أن تتحمل مسؤولية كل ما ينشر عبرها، كما هو الحال بالنسبة للناشر، ونرى في رفضها لهذا الأمر، دورا كبيرا في تراجع قيمة الحقيقة الذي نعيشه اليوم.
قد يقول لنا البعض، إنها شركات تطور تقنيات تسمح بهامش للتعبير للجميع، وأن محاربة الأخبار الزائفة، دور منوط بالإعلاميين، كونهم يخضعون لضوابط تؤطر ما ينشرونه قانونيا وأخلاقيا.
في المجتمع الصحي المتماسك، يعتبر غالبية الأفراد أنفسهم أبطالا منتجين كل من مكانه، حسب قدراته ومهاراته وإمكانياته، بينما في المجتمع الهش، نجد الغالبية تبحث عن أيقونات معارضة كي تفرج من خلالها على ضغط الواقع المعيش، دون أن تنخرط في بناء بديل أفضل، بل غالبا ما تجدها مستعدة أن تضحي بهؤلاء الابطال وتقدمهم أكباش فداء إن اقتضى الأمر.
سنجيب هؤلاء: كيف يمكن للسلطة الرابعة، الضرورية في أي بلد ديمقراطي أو يصبو نحو الديمقراطية، أن تكون قوية وتمارس مهنتها دون أن تسقط في الهشاشة الاقتصادية، في ظل تزايد مهول لخطابات تآمرية، لا تهتم بالتدقيق في صحة ومصدر الخبر، بقدر ما يهمها جلب الانتباه بشكل يدر عليهم ربحا ماديا جيدا؟. كيف يمكن، في الدول التي لا يزال المستوى التعليمي بها متواضعا، ومجتمعاتها بعيدة عن امتلاك عقل نقدي تمييزي، جلب انتباه المتابعين لمنتوج احترافي تطلب الجهد والمثابرة والعمل الجاد في البحث والتدقيق والتحليل على مواقع التواصل، التي أصبحت الأكثر استعمالا عالميا للوصول إلى الأخبار، بينما هذه الأخيرة، تعتمد على السرعة في التفاعل والعناوين الزائفة لجلب الانتباه؟ ونذكر هنا أن وقت الانتباه، أصبح اليوم سلعة يتاجر بها عبر للتطبيقات الرقمية.
ما سبق، إضافة الى إكراهات اخرى، يضع المحاولات الإعلامية الجادة والهادفة إلى الارتقاء بالعقول، أمام خطر ضعف المردودية المادية والإفلاس إن اختارت أن تخاطب فئة كبيرة من الناس في بلدنا. وهذا ما دفع للأسف بجزء من هذه الصحافة، إلى انتقاء فئة نخبوية من القراء، سواء من خلال لغة النشر أو تكلفة الاشتراك، ما يزيد في تعميق الهوة بين النخبة والبسطاء معرفيا من الناس.
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: الديبخشي: حين يجوع الثعبان… يأكل نفسه !
بالعودة للحلول، لا زلنا مقتنعين، رغم تغير العالم بسرعة متزايدة، أن الحل الأساسي واللازم للخروج من سيناريوهات مستقبلية رمادية، كي لا نقول سوداوية، هو بناء نظام تعليمي يؤسس لعقل نقدي تمييزي كأولوية الأولويات. إذ نرى أنه السبيل الأنجع للوصول إلى عدالة اجتماعية تضمن كرامة كل شخص في نظام ديمقراطي.
هنا… نلفت الانتباه أن التعليم الجيد، والتفكير النقدي، سيكون أساس التفريق الطبقي في المستقبل القريب، ويكفي النظر لكبار المستثمرين في وادي السيليكون، كيف يسخرون الجزء الأكبر من ثرواتهم الهائلة، التي راكموها عبر سنين من العمل والابتكار، للتبرع بها لجمعيات ذات أهداف إنسانية، ويفضلون، عوض توريثها لأطفالهم، أن يوفروا لهم تعليما رفيعا، يكلفهم أموالا باهظة، يمزج بين الفن والرياضة، ويؤسس للانفتاح والتفكير النقدي، حتى يمكنهم أن يكون مبدعي الغد. (تكلفة تعليم الاطفال عند من يصطلح عليهم النخبة العلمية تشكل قرابة أربعين في المائة من دخلهم السنوي في أمريكا وأوروبا، حسب مقال نشر شهر شتنبر في لوموند ديبلوماتيك).
هذا الحل مكلف أكيد، ويتطلب الخروج من استسهال الخضوع للأمر الواقع، وتحمل كل الأفراد مسؤولياتهم، كل من مكانه، والوعي بضرورة البناء المشترك لغد أفضل، بعيدا عن تفرقة العالم الافتراضي الذي يجمعنا مع من يشبهنا ومن اخترناه، والتي زادت من حدتها الجائحة، حيث أصبح التعليم عن بعد والعمل عن بعد، عاملان لا يساعدان على تكوين إحساس بالانتماء لوطن مشترك يجمعنا بمختلف توجهاتنا، ويحتاج منا أن نشتغل يدا في يد من أجل التقدم به ومعه.
إن هذا يتطلب من كل فرد منا، أن يقدم أفضل ما لديه من موقعه، ويساهم، بنكران للذات، في الانخراط من أجل تحسين الشأن العام.
حان الوقت أن نخرج من إحباط خطابات المظلومية المتزايدة، وأن نعتبر أنفسنا قوة فعالة، قادرة، ليس على أن تفعل أفضل فقط، بل ان تفتح باب التفكير الجامعي وتطرح اسئلة جريئة من قبيل… ما الذي علينا فعله بشكل مغاير كليا في المستقبل؟
مااحوجنا الى مثل هذه المواضيع الوازنة،لوتلقى صداها لدى النخب،فتجعل منها مجالا لتغيير اوضاعنا من حالة اليأس الى حالة الأمل ،والاندماج ضمن منظومة فكرية تدعو الى بيئة نقية،واستقرار انساني،وتحول انساني منالتأثر الى التأثير الايجابي.