أحمد الخمسي: حجر “الدارجة”… في مستنقع
في مقدمة كتابه “المغرب المجهول”(سنة 1895)، اعتبر أوغوست مولييراس سر جهل الفرنسيين بالمغرب، رغم ادعائهم بمعرفته، جهلهم باللغة العربية. بعد ذلك، لم يدخر العقل السياسي الفرنسي جهدا (البعثة العلمية: 1904) …
في مقدمة كتابه “المغرب المجهول”(سنة 1895)، اعتبر أوغوست مولييراس سر جهل الفرنسيين بالمغرب، رغم ادعائهم بمعرفته، جهلهم باللغة العربية. بعد ذلك، لم يدخر العقل السياسي الفرنسي جهدا (البعثة العلمية: 1904) لإنجاز عملية فرعونية (كما يقال) للاطلاع على مختلف جوانب حياة المغاربة وجغرافية وتاريخ المغرب. عملية شبيهة بما أنجزه نابليون في الحملة المصرية قبل قرن (1799).
كان الفرنسيون، من خلال ما أنجزوه، “قد فمّهم قَدْ درَاعُوم” كما نقول في المغرب: (قول وفعل). لله درّهم. فتملكوا الوعي بما كان عليه المغرب من اتساع وعظمة الثروة الطبيعية، بينما كان المغاربة غارقين في الأمية ودولتهم تكاد تتلخص في قياد إقطاعيين لا يختلفون عن قطاع طرق، بلا ثقافة سياسية ولا منظومة حكم شرعي. مما لخص جهد الحسن الأول في حركات استتباب أمن لم تنته إلا بوفاته، ليترك بعده اسم الأمبراطورية الشريفة يتآكل، ومعه جغرافية المغرب تتقلص بفعل أطماع الحزب الاستعماري الفرنسي.
منذ استعادة الاستقلال السياسي (1956)، تمحور العقد الوطني (وثيقة الاستقلال: 1944) بين فرقائه (المخزن والأحزاب) حول إعادة بناء الشرعية التاريخية لكيان الدولة في صيغة حديثة: من السلطنة إلى الملكية. وبسبب الحرب الباردة، تمزق العقد الوطني عمليا وسادت نفسية “الحرب الأهلية” (1961-1975)، على حساب تحرير التراب (الصحراء) والإنسان (الديمقراطية).
ولأن النخبة السياسية لم تتوفق في ترتيب أولويات يستفيد منها الشعب (التعليم)، فقد تمكن الحزب الاستعماري الخارج من الباب (2مارس 1956) من العودة عبر نوافذ اتفاقيات التعاون المتتالية (الاستعمار الجديد).
يتوهم المنتعشون من الريع المباشر قدرتهم على تقديم اقتراحات فعالة. بينما طفا اسمهم ضمن مهام وظيفية محدودة لم تتسع سمعتهم معها سوى عبر ظهورهم الطفيلي ضمن سياسة إعلامية مختلة تفسح مساحاتها للزبناء والمتعاملين التجاريين أكثر من تعوّدها فتح الشاشات والميكروفونات لأصحاب القضايا البعيدين عن الريع. فيولّد الوهم الأصلي (الريع) سلالة من الأوهام الفرعية حلولا بالصدفة.
أفرز المخزن طيلة 38 سنة أدوات سلطة تستحكم في دواليب الدولة، بما يضمن سيادة تقنوقراط يرعى مصالح القوة الاستعمارية السابقة ضمن خريطة تقسيم النفوذ بين الدول الرأسمالية. من بين أدوات السلطة التقنوقراطية تلك، نخب موزعة بين الجامعة والإعلام ومهن العدالة (قضاة، محامون، موثقون، حقوقيون) والأحزاب والنقابات.
إقرأ أيضا: بعض من كلام: أمبرطو إيكو، عيوش، الكلاب والحمار… بالدارجة الفصحى!!
كان كل طرف من هذه الأطراف يساهم بتزييت مفصل من مفاصل الدولة كآلة تنظم الحياة السياسية، ما بين لحظات العصا والجزرة لتطويع الشعب.
كانت الشعبوية صيغة من الصيغ التي يظهر أبطالها ما يضمرون لتليين إرادة الشعب إن لم ينجح التطويع القسري في ذلك.
اليوم، جاءت الدعوة إلى الدارجة أطروحة متكاملة لربط جسر وهمي بين سلطة الليبرالية المتوحشة التي لا ترحم، وبين الشعب الذي فقد المكتسبات الجزئية التي كانت لديه ما بين 1956 و1979.
وتحت تأثير رهاب السلطة، مباشرة بعد سقوط الشاه في إيران (1979)، ساهم كل من جهته، بالإرادة أو عن جهل، في تفكيك التعليم قصد بناء سلاليم الفساد طرقا للترقية الاجتماعية، مما جعل شرعية الترقي وسط الشعب مشكوكا فيها أكثر من نسبة التساؤل عن شرعية القرارات السياسية التي تتخذها السلطة باسم السيادة.
انحسر الصراع السياسي حول جزئيات المشروعية العملية والمسطرية المتعلقة بالسياسة الداخلية، بما يصطلح عليه اليوم بالسياسات العمومية.
لو كان مقترح الدارجة صاحب قضية أصلا في التعليم، لجاء مقترحه ضمن مشروع تعليمي حول اللغات في المغرب.
بينما انتقل النظر في ترتيب الأمور الكبرى لدرء خطر التساؤل حول فقدان الشرعية الأصلية إلى جهات أجنبية، باسمنا، دولة وشعبا، إلى “ضمان” استراتيجي يحول دون سقوط المغرب في مخططات الإرهاب مثلا. وأصبح رعاة مصالحهم الأنانية والطبقية يرفعون سيف الخوف من سقوط الحالة السياسية في حرب أهلية مثل ما يجري في ليبيا وسوريا واليمن، يخيّر الشعب اليوم، تحت سقف التهديد من السقوط فيما لا يحمد عقباه، بين الشعبوية المتدينة والشعبوية المعلمنة. عنوان الشعبوية المتدينة سقط في جزئه الأكبر بسقوط بنكيران، أما إسقاط الحراكات للشعبوية المعلمنة فتمَّ تحت عنوان إلياس العمري.
إقرأ أيضا: الفرنسية والإنجليزية في التعليم المغربي: هيمنة اللغة… لغة الهيمنة؟
ليظهر “منظر” الدارجة اليوم، وهو الجزء الفرنكوفوني من الشعبوية المعلمنة، بديلا نخبويا متعجرفا يستكمل الانعزال النخبوي المتخم بالريع، عبر صفقة تعليم من الخردة.
من باب علم اليقين، أن الداعي إلى الدارجة لا يناقش “مقترحه” الشعبوي في وسطه القريب اليومي الشبيه له… سوى باللغة الفرنسية.
خردة القضايا، وخردة الحلول، بدماغ يظهر أنه لم يأخذ من الثقافة الفرنسية الرائعة سوى خردتها البالية التبعية، المقتاتة ضمن موائد علية القوم، بينما يرمي للشعب مقترحا يشير به له هو في القمامة.
من باب علم اليقين، أن الداعي إلى الدارجة لا يناقش “مقترحه” الشعبوي في وسطه القريب اليومي الشبيه له… سوى باللغة الفرنسية.
لو كان مقترح الدارجة نصيرا للقضايا العادلة الليبرالي منها، لكان مثل الرأي الأوربي والفرنسي، خصوصا ضد الظلم في أحكام قضائية ذات طابع سياسي محض. لو كان ناطقا سياسيا باسم مقتضيات التنمية المتوازنة، لارتفع صوته ضد الاستعمال غير المبرر لرصاص ضد فتاة مغربية لا تشكل مغامرتها للهجرة أكثر من مخالفة في القانون الدولي. لو كان مقترح الدارجة صاحب قضية أصلا في التعليم، لجاء مقترحه ضمن مشروع تعليمي حول اللغات في المغرب. ولتساءل بالتالي، وعلى التوالي، عن مدى استفادة شباب المغرب من الفرنسية بدل عالمية الانجليزية وإجرائيتها في مختلف القطاعات، حيث بابت اللغة المفتاح للعولمة ولفرص الشغل في عالم يستعمل الانجليزية في 90 في المائة من القطاعات الاقتصادية السائلة اليوم عبر الافتراضي.
يمكن القول إن رغبة الدولة في تنفيس مسالك الاقتراح وفتحها بالموازاة للمؤسسات الرسمية يوهم المنتعشين من الريع المباشر بقدرتهم على تقديم اقتراحات فعالة. بينما طفا اسمهم ضمن مهام وظيفية محدودة لم تتسع سمعتهم معها سوى عبر ظهورهم الطفيلي ضمن سياسة إعلامية مختلة تفسح مساحاتها للزبناء والمتعاملين التجاريين أكثر من تعوّدها فتح الشاشات والميكروفونات لأصحاب القضايا البعيدين عن الريع. فيولّد الوهم الأصلي (الريع) سلالة من الأوهام الفرعية حلولا بالصدفة.
سيطرتهم على مسالك الثقافة الغربية المعتمدة بالمغرب (السينما، المهرجانات الموسيقية) توهمهم أنهم أوصياء جدد على مستقبل الشعب، وذلك بإعمال مبدأ “جيل جديد، شعب جديد، طموح جديد”. بينما ينسون أن هذه القاعدة السوسيولوجية تستعمل في الغرب وفق منظومة متكاملة قوامها الدولة التي ما زالت ملتزمة بتوفير التعليم والصحة كمؤسسات فعالة ولو تغيرت أساليب تدويرها من مجتمع الرفاه إلى مجتمع الاستهلاك. فالجودة مضمونة ومستقرة سواء استفاد الناس من التعليم في الغرب كمواطنين أو كزبناء.
يظهر “منظر” الدارجة اليوم، وهو الجزء الفرنكوفوني من الشعبوية المعلمنة، بديلا نخبويا متعجرفا يستكمل الانعزال النخبوي المتخم بالريع، عبر صفقة تعليم من الخردة.
ازدهرت الدارجات الأوربية وتحولت إلى لغات قومية وطنية ضمن النهضة الصاعدة في العلم والتعليم والاعلام؛ وليس ضمن بروبغندا إعلاموية طافية فوق ركام من انهيارات التعليم والصحة والشغل. فالدعوة الى الدارجة هنا صرخة إنقاذ للسطح اللغوي بينما يتفكك باطنه العلمي والتعليمي دون توقف. إنها وهم إعلاموي. إنها صرخة في واد، يملأه الذئاب والعقبان وكل متربص بالقضايا العادلة لتزوير مراميها.
فالدعوة إلى الدارجة ليست غير رمي حجر في مستنقع آسن.
كان الفرنسيون أكثر عقلانية وهم راغبون ساعتها في الاطلاع على ألوان الذيل الجميل (المغرب) لطاووس الأرض، في بلد اعترف مولييراس أنه جميل وأكبر من فرنسا. تملك الفرنسية، هي أن تقرأ الأحمر والأسود مثلا وتستطيع أن تكشف هموم الفرنسيين مع جنون حروب نابليون، وتجنح إلى السلم حتى وأنت تحلم بثورة. وليست عظمة الفرنسيين في اقتفاء أثر الحزب الاستعماري، مثل ما كتب D’ARLACH عن الريف سنة 1856، كما لو كان المغاربة مجرد وحوش منذ كانت أوربا قبل القرن السابع…
إقرأ أيضا: الفرنكفونية في المغرب، لغة أم سلاح؟
نتمنى أن ينتبه بعض الفرنكفونيين أنهم غير متشربين بالروح العظيمة للشعب الفرنسي المكافح، فقد كانت فرنسا الحرة تسطر ثورة يوليوز في باريس صيف 1830 (la révolution des trois glorieuses) بينما كان الحزب الاستعماري الفرنسي استبق الثورة بشهر كي يضلل الشعب وذهب لاحتلال الجزائر في يونيه من نفس السنة.
يا صاحب الخردة اللغوية: اختر أن تكون مع سلالة محمد بن يوسف وعلال بن عبد الله أو أن تكون مع محمد بن عرفة والمقيم العام غيوم والباشا الكلاوي. وغنيمة الفرنسية من الحرب كما قال كاتب ياسين ليست هي خردة الدارجة.
والدارجة العظيمة في الملحون وعبد الرحمن المجدوب وقوافي بلاغة المغاربة وحكمة أجدادهم عصية على التطويع ضمن كاريكاتور برنامج تجهيلي.