“تاريخ الكذب”… في السياسة وصناعة التاريخ المزيف 2/2
“لم يسبق للإنسان أن مارس الكذب بهذا الحجم، وبهذه الطريقة المنسقة والوقحة التي يتخذها الكذب أيامنا هذه”.
نواصل قراءتنا في كتاب “تاريخ الكذب” لكاتبه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وبعدما تابعنا في الجزء الأول إحاطته بالكذب كمفهوم، واتهامه بحيازة دور في صناعة وتشكيل السرديات البشرية، في هذا الجزء الثاني، نرى إن كان دريدا سيخلص في الأخير إلى وجود إمكانية لكتابة تاريخ للكذب، وهو السؤال الذي يحاول الوصول إلى إجابة له على امتداد صفحات الكتاب.
قبل ظهور دراسة الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت المعنونة بـ”الحقيقة والسياسة”، التي أشرنا إليها في الجزء الأول، سبقها إلى الظهور مقال للمؤرخ الفرنسي ألكسندر كواري عام 1943 بعنوان “تأملات في الكذب”.
ذات المقال نشر عامين بعد ذلك، لكن هذه المرة بعنوان “الوظيفة السياسية للكذب الخاص بعصرنا الراهن”.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي يكتب: خدعوك فقالوا: الغرب متقدم مادياً، لكننا متقدمون أخلاقياً!
المقال يبدأ بالفقرة التالية: “لم يسبق للإنسان أن مارس الكذب بهذا الحجم، وبهذه الطريقة المنسقة والوقحة التي يتخذها الكذب أيامنا هذه”.
كواري يتوقف في مقاله هذا عند الكذب الذي يمارَس من طرف السياسيين أساسا… بخاصة في الأنظمة الشمولية.
“ثمة مجانسة لا يمكن إنكارها بين الكذب والفعل والسعي في تغيير العالم؛ أي باختصار السياسة”.
يقول دريدا، الذي يعرض مطولا في كتابه لهذا المقال، إنه لم يكن صعبا على كواري أن يجد في الفترة التي عاش فيها، أمثلة، تجسد فكرته عن الكذب، كما تؤسسها الأنظمة الشمولية (سواء قدمت نفسها كذلك أو لا).
من هذه الأمثلة، التصريح الذي يورده للماريشال فيليب بيتان، رئيس فرنسا (1940-1944)، حيث يقول “أمقت الكذب”.
كواري في مقاله يورد التصريح بصفة مقتضبة معتمدا على ذاكرته، وهو هكذا: “أمقت الأكاذيب التي كانت سببا في إلحاق كل هذا الأذى بكم”.
اقرأ أيضا: إيران كونترا: حكاية عشق ممنوع بين الخميني وريغان. 1\2
كل الكلمات والضمائر والأزمنة، المستعملة هنا بحسبه، لها قيمتها.
من جهة، لدينا ضمير المتكلم، ومن جهة أخرى ضمير مخاطب الجمع. بتحليل هذا التصريح نجد معناه كالتالي يقول دريدا:
“أنا الذي أخاطبكم على علم بالحقيقة. الحقيقة ذاتها التي أقولها لكم، والتي عليّ أن أقولها لكم. وأعرف طبيعة الأكاذيب التي كانت سببا في إنزال الأذى بكم، ولذلك فهي تستحق أن تمقت. وعلى كل حال، انتهى كل هذا وأصبح في حكم الماضي والأذى الكبير الذي سببته لكم لم يعد واردا”.
الكذاب بحسب أردنت، رجل فعل بامتياز، بخاصة في السياسة، حيث يبدو أن القدرة على الكذب والقدرة على الفعل، لهما جذر مشترك.
هذه التقنية، على حد تعبير كواري، ميكيافيلية بامتياز، وفن كان هتلر يتقنه على درجة عالية. يقول الحقيقة ويعلم أن لا أحد من الذين يجهلون الرموز المستعملة، سيأخذ أقواله على محمل الجد.
يتعلق الأمر، بحسب دريدا، بنوع من “التآمر في واضحة النهار”، وذاك ما تعتبره أرندت بمثابة الصورة المجسِّدة للكذب الخاص بعصرنا.
اقرأ أيضا: الشبكات الاجتماعية… فضاءات حرة لسلطة مضادة عمادها المواطنون! 1\3
هذا الكذب يمكن تحديده كالآتي: النطق بالحقيقة بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس عليهم تصديقها…
أي أولئك الذين يظنون، لسذاجتهم، بأن يقظتهم وحيطتهم ودرايتهم بالرموز المستعملة، كفيلة بأن تدخلهم في زمرة أولئك الذين يعرفون حق المعرفة متى يمكن لهم تصديق ما يُقال لهم.
أعمال أردنت بحسب دريدا مدخل مهم لتشكيل تاريخ للكذب، إذا ما سعى المرء إلى ذلك.
كواري، بالمناسبة، لم يكن السباق إلى اكتشاف هذه الحيلة. إلا أن ما يميزه، وفق دريدا، هاجسه في تحليلها باعتبارها تقنية سياسية خاصة بعصرنا، عصر الاتصال الجماهيري.
بالعودة إلى أرندت، نجدها تقول: “ثمة مجانسة لا يمكن إنكارها بين الكذب والفعل والسعي في تغيير العالم؛ أي باختصار السياسة”.
والكذاب بحسبها، رجل فعل بامتياز، بخاصة في السياسة، حيث يبدو أن القدرة على الكذب والقدرة على الفعل، لهما جذر مشترك.
تاريخ للكذب؟
سبق أن رأينا في الجزء الأول أن كتاب جاك دريدا هذا عبارة في الأصل عن محاضرة، لذلك لا تربو صفحاته عن المائة سوى بقليل.
دريدا يعتبر أن الأفكار التي يوردها في كتابه، تمهيدية. لذلك، سرعان ما عاد إلى حنة أرندت ليوجه أفكاره صوب الختام، حيث عاد إلى السؤال الذي انطلق منه: هل بإمكاننا التوصل إلى تاريخ خاص بالكذب؟
لا تسمح التقنية بتعديل الأيقونة على نحو خادع وحسب، إنما تمكننا من إنجاز أيقونة جديدة تبدو كأنها الأصل.
يجيب: “أنا أشك في هذا أكثر من أي وقت مضى، وحتى لو افترضنا أنه بإمكاننا السعي في ذلك، فيستوجب علينا أخذ كل أعمال حنة أرندت بعين الاعتبار”.
أعمال أردنت بحسب دريدا مدخل مهم لتشكيل تاريخ للكذب، إذا ما سعى المرء إلى ذلك. ثم يلخص بعض أهم أفكار الفيلسوفة الألمانية، التي ينبغي الاعتماد عليها في هذا الصدد.
من بينها، أن أرندت تعبر وبوضوح على أن تاريخ الكذب يجب أن يكون بعيدا عن فكرة “الوعظ الأخلاقي”؛ أي التطرق إليه بوضعه خارج نطاق الأخلاق.
اقرأ أيضا: عن التعاطف الانتقائي: لماذا آلمنا انفجار بيروت ولم يفعل فيضان الخرطوم؟
الفيلسوفة الألمانية تدخل أيضا في الاعتبار، ليس فقط تطور وسائل الإعلام، بل كذلك البنية الإعلامية الجديدة، التي أفضت إلى تحول في الأيقونة (الصورة) والفضاء العمومي.
يبدو واضحا اليوم أن تحولات كبيرة ذات طابع تقني قد طرأت على الأيقونة.
لا تسمح التقنية بتعديل الأيقونة على نحو خادع وحسب، إنما تمكننا من إنجاز أيقونة جديدة تبدو كأنها الأصل.
الإشكال هنا، بالعودة إلى ضلوع الكذب في صناعة التاريخ، أن الأيقونة تلك، المزورة إن صح التدليل، تصبح الأرشيف الوحيد الذي يحفظ الحدث، بل الحدث نفسه، ومن ثم… التاريخ نفسه!
لقراءة الجزء الأول: “تاريخ الكذب “… هل الكذب متهم في تشكيل السرديات البشرية؟ 2/1