ما الذي تغيّر في “الإسلام” حتى يُغيّر بعض الشيوخ رأيهم نحو التطبيع؟
في زمن مواقع التواصل الاجتماعي… الذاكرة ليست بقصيرة كما يعتقد البعض. كلّ ما يقال محفوظ، والأحداث صارت تكشف، أكثر من أي وقت مضى، عن تعدد الوجوه…
بُكائيات شيخ
كان إمام الحرم المكي، عبد الرحمن السديس، إذا خطب في المصلين يبكي فيُلهب حماسهم… لا ينسى الفلسطينيين من دعائه، ولا يترك صغيرة من مفردات الانتقام إلا ودعا بها على اليهود… وعلى “الصهاينة المعتدين”.
كان يقول: “في الأمة من لا يزال مخدوعا بعملية التطبيع والاستسلام، ويستنكر الجهاد والانتفاضة ويتهمها بالغوغائية والفوضوية، ولا تمثل عنده مقدسات الأمة شيئا”.
ثم فجأة، في الرابع من شتنبر 2020… تغير أمر ما!
المواقف الأخيرة لبعض الشيوخ أظهرت للكثير، وبما لا يدع مجالا للشك هذه المرة، أن عقيدة الحرابي أولى لدى هؤلاء من دينهم!
في خطبة الجمعة من ذلك اليوم، خرج السديس بوجه جديد… فعلى غير العادة، ذكّر بحسن تعامل الرسول محمد مع اليهود:
“مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، وعامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم، وأحسن إلى جاره اليهودي، مما كان سببا في إسلامه، وهكذا في وقائع كثيرة متعددة”.
اقرأ أيضا: الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية: أصل الحكاية
فجأة… صار يرى أنه ثمة “عدم فهم في باب الولاء والبراء، ولبس بين الاعتقاد القلبي وحسن التعامل في العلاقات الفردية والدولية”.
السديس نفسه، الذي كان يصحب دعاءه على اليهود بالبكاء، قال: “لا يتنافى مع عدم موالاة غير المسلم، معاملته معاملة حسنة تأليفا لقلبه واستمالة لنفسه، للدخول في هذا الدين (الإسلام)”.
وتابع أنه “حين يُغفل منهج الحوار الإنساني، تسود لغة العنف والإقصاء والكراهية”، بعدما كان في وقت سابق يدعو إلى الجهاد، مُذكّرا بحديث النبي: “من مات ولم يغزُ، ولم يُحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق” (مسلم).
اقرأ أيضا: محمد بن سلمان… من تهمة “أبو رصاصة” إلى تهمة “أبو منشار”
ثم في الأخير، اكتفى بـ”رفع أكف الضراعة” لفلسطين والمسجد الأقصى… ولم يأت على ذكر “الصهاينة المعتدين” كعادته!
لكنه قبل ذلك… لم ينس التشديد على طاعة الإمام خلافا لمن وصفهم بـ”الخوارج المارقين والأحزاب الضالة وجماعات العنف المسلحة”.
يحصل رجال الدين في هذه الصفقة على الحماية والامتيازات، بينما يحصل الحاكم على الدعم الديني لتحصين موقفه وكسب مزيد من الشرعية.
كانت هذه أحدث أدوار السديس وفق من صبوا جام غضبهم عليه لـ”تغير موقفه تبعا لموقف الحكام”.
بعضهم لم يفوت فرصة تذكيره بأن المشكلة ليست مع اليهود… إنما مع “فكرة التساهل مع الصهاينة مغتصبي فلسطين”.
أمّا من خبروا قراءة السطور وما بينها، فيعرفون أن الخطبة تلك مؤشر على ما يدور في أروقة الحكم… وأن السديس يُعبّد لآل سعود أمام المسلمين طريق التطبيع مع إسرائيل.
… وصار اليهود “أشرف”!
أما وسيم يوسف، الأردني الذي حصل على الجنسية الإماراتية عام 2014، فأخيرا يبدو أنه سيحصل على موطئ قدم في بلاط آل نهيان…
حاول جاهدا لسنوات، لكنّ لسانه لم يُسعفه، فقد سُجن ومنع برنامجه “رحيق الإيمان” من البث، وجرى عزله من إمامة مسجد الشيخ زايد الكبير في أبو ظبي…
اقرأ أيضا: التطبيع… عودةٌ إلى حالة طبيعية أم تطويع وقسر على الاعتياد؟ 3/1
ثم ظهر للإمارات أن تُطبّع مع إسرائيل… ولسنا ندري إن استعانت بيوسف، أم أن يوسفا تلقف الفرصة وأخذ ينتهزها…
الاستخدام السياسي للدين يؤدي لا محالة إلى سياسة مأهولة بخطر الاحتقان الاجتماعي، ومقابل ذلك، تُدمّر الدين… كما يفعل هؤلاء الفقهاء والحكام!
إنما في أكثر من مرة، أكد هذا الشيخ الذي وُلد عام 1981، أنه متأثر بوجوه السلفية السعودية؛ محمد بن صالح العثيمين، ناصر الدين الألباني، وربيع هادي المدخلي.
… والمدخلي هذا مثلا، مؤسس التيار المدخلي الذي يُقدّس الحاكم ويعتبر الخروج عنه مروقا عن الدين، حتى إنه للسبب ذاته يُحرم على نحو مطلق وجود الأحزاب السياسية.
اقرأ أيضا: التيار المدخلي: الدين في خدمة السياسة 1\2
وقد سبق للسعودية أن استعانت به للدفاع عن فتوى لابن باز تجيز التدخل الأمريكي في جزيرة العرب لـ”تحرير الكويت من الغزو العراقي”.
قبل التطبيع الإماراتي، كانت فلسطين عند وسيم يوسف “ساحة جهاد وقتال ضد العدو الصهيوني المغتصب للأرض”، وكان أعظم الأعداء لدين محمد، بالنسبة له، اليهود والنصارى.
… وكان فعلُ ماضٍ، وفي حالتنا هذه، ماضٍ قريب جدا… فماذا عن الحاضر؟
يقول يوسف إن “إسرائيل لم تُفجر المساجد، ولم تصنع الفتنة بين السنة والشيعة، ولم تحرق كنائس العرب، وكل من فعل هذا هو نحن”.
راح بعد ذلك ينشر تغريدة تلو الأخرى تتضمن آيات قرآنية عن التعايش واحترام باقي الديانات…
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: فلسطين… بين تجارة الوهم والحقيقة
ثم حين شاهد متظاهرين ضد التطبيع في القدس يدوسون بأقدامهم صورة ولي عهد أبو ظبي، لم يتمالك نفسه وقال: “أعتذر لكل رجل إسرائيلي إذا أسأت له في الماضي”.
… وقطع شعرة معاوية حين خاطب الفلسطينيين: “أنتم لا تستحقون القدس في الحقيقة، إنكم بلا أخلاق، اليهود أشرف منكم”.
تحالفُ السّوء
قد يفهم في قضايا عديدة تغير مواقف الدول تبعا لما ترى فيه مصلحة لها. تظل سياسة في النهاية. إنما الأكثر إثارة منه في الدول الإسلامية، تغيّر أحكام وفتاوى الفقهاء تبعا لذلك.
في السعودية، مثلا، وبعدما حرّم هؤلاء قيادة المرأة للسيارة على مدى عشرات السنين، أصبحت الإباحة، بين عشية وضحاها، الأصلَ في قيادة المرأة للسيارة… بل إنه “ما من نص شرعي مانع”.
اقرأ أيضا: على هامش قضية رهف: هل سقط قناع حقوق المرأة في السعودية؟
فما الذي تغيّر ليُغيّر هؤلاء آراءهم؟ “الإسلام” مثلا؟
السديس نفسه، الذي كان يصحب دعاءه على اليهود بالبكاء، قال: “لا يتنافى مع عدم موالاة غير المسلم، معاملته معاملة حسنة تأليفا لقلبه واستمالة لنفسه، للدخول في هذا الدين (الإسلام)”.
لطالما تحالف الحكام ورجال الدين، سواء طواعية؛ تزلفا، أو إكراها وربما استدراجا… الأمثلة التاريخية أكثر من أن تُحصى…
أما الصّفقة، يُشير الباحثون في هذا الصدد، فأن يحصل رجال الدين على الحماية والامتيازات، بينما يحصل الحاكم على الدعم الديني لتحصين موقفه وكسب مزيد من الشرعية.
لا أحد ينفي ما لرجال الدين من تأثير في المجتمعات المُتخلّفة، وتعبئة الناس لدعم قرار سياسي قد لا ينسجم مع ما يعتقدونه… مُهمّة لا شك أن رجال الدين أهل لها.
اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
لكن ادعاء “الطهرانية” وتوظيفها في استغلال معتقدات الناس من أجل إضفاء الشرعية على قرارات سياسية “دنيوية”… لا تفيد، بحسب الباحثين، لا الدين ولا السياسة.
فهذا الاستخدام يؤدي لا محالة إلى سياسة مأهولة بخطر الاحتقان الاجتماعي، ومقابل ذلك، تُدمّر الدين… كما يفعل هؤلاء الفقهاء والحكام!
… أما المواقف الأخيرة لبعض الشيوخ، فقد أظهرت للكثير، بما لا يدع مجالا للشك هذه المرة، أن عقيدة الحرابي أولى لدى هؤلاء من دينهم!