أحمد الخمسي يكتب: حزن الظن – أحاديث طريفة بين النية والظن
بين زير النساء وزيغ النساء الزير لو نطقنا راءه غاءً، صار زيغا. ونحن نضيف عادة كلمة نساء للكلمة المضاف زير، ينتقل مركز الحدث، في حالة نطق الراء غينا، من كلمة …
بين زير النساء وزيغ النساء
الزير لو نطقنا راءه غاءً، صار زيغا. ونحن نضيف عادة كلمة نساء للكلمة المضاف زير، ينتقل مركز الحدث، في حالة نطق الراء غينا، من كلمة المضاف (زير) إلى الكلمة المضافة إليها (نساء)؛ ففي زير النساء يكون الزير هو مركز المضمون اللغوي و”مسرح الجريمة”، وفي زيغ النساء تصبح النساء هن مركز الحدث و”جنة الإغواء” .
عادة، في مناسبات الحزن أو الفرح سيان، ينقسم الجمع إلى فئتين: فئة الحدث وفئة الجوقة الملتئمة حول الحدث. خصوصا ضمن الموروث من المؤسسات والمحنط من التصرفات.
مثلا، حالتان من الفئة الأولى فئة الحدث: أهل الميت، أو أهل العروس أو العريس.
حالتان من الفئة الثانية: المُعَزُّون أو المهنئون.
لأن الحزن فاقد للجاذبية الحيوانية الطبيعية في البشر، يأتي المـُعَزُّون من تلقائية مواساتهم، ولأن في الفرح بركان جاذبية، فالمهنئون فئة مدعوة حصرا.
عندما تكون العلاقات منتجة لصادق الحزن والفرح حسب الحالة، تكون المشاركة التلقائية في عين الحدث، إذ يبرز أحد المدعوين وكأنه من أهل الدار، يشارك في تقديم الخدمات كي يستدرك نقصا في الطاقم ليساهم في تجويد الخدمات لفائدة المدعوين دونما حساب ضيق، فيلمع حضورا من باب قول “سيد القوم خادمهم”.
اقرأ لنفس الكاتب: باب الجياف… باب اليهود
في المجتمع الانتقالي من المحافظة إلى الحرية والحداثة، قد تتناقض المواقف والردود ما بين الإقبال على الفرح بحزن دفين أو الإقبال على الحزن بتشفّ دفين. قد ينتج الحزن الأصلي في ثناياه حالات فرح نقيض من فرط الضغينة المتفجرة لدى بعض المعزين من صميم جرح الآخر المصاب، وقد يُنتِجُ الفرحُ الأصلي فروعا نقيضة من الحزن اللعين الناتج عن تربص بعض المدعوين وتحينهم فرص الإرباك.
لأن الحزن فاقد للجاذبية الحيوانية الطبيعية في البشر، يأتي المـُعَزُّون من تلقائية مواساتهم، ولأن في الفرح بركان جاذبية، فالمهنئون فئة مدعوة حصرا.
على العكس من كل هذا، قد يبرز الشخص الايجابي؛ فالشغوف بالمشاركة ليس له وقت للمتابعة المتربصة باصطياد لحظة العطب في الحدث. فيما الكسول غالبا، متربص بتعليل نكوصه السلوكي لتبرير الكسل، فتصبح مهمته الحيوية هي التعليق السام على البهاء السامي المتجلي في المشاركة الرحيمة.
بين الصحة والعلة تداخل شديد الاختفاء، وهو فاقع الحضور كما لو عرفنا الحياة كونها توأم الموت. لذا، التعليق السام على البهاء السامي، تداخل بين الموت والحياة. تلك ظاهرة في كل جمع حول الفرح أو حول الحزن. أشخاص إيجابيون وأشخاص سلبيون.
فالسامُّ مشتق من السمّ والسامي مشتقّ من السمو. فالتشديد في كلمة السمّ يمتد مكشوفا ظاهرا في الواو في كلمة سمو. السمو ليّن ممدود والسمّ مُشدّد ومتقلص مثل تقلص العضلات أو استرخائها في لحظات الرياضة. السمو ظل خفيف آت من علو سماء كما لو كان سحابا يمطر شآبيب المودة. السّمّ كالثعبان الخارج فجأة من ثقب خفي خلفي يفاجئ الغافي المطمئن بلسع قاتل. كما لو قلنا: السم كائن معقد. والسمو “كووول” و”بخير مع راسو”.
أخذ مسافة ذهنية من المضمون المتداول للكلمات يساعد على فك الارتباط بين اللغة وضحاياها المغرورين المصابين بمرض الفصاحة الموروثة
إن اختلفت نية السم عن نية السمو بظننا العقلاني، سنتعامل معهما بنوع من تكافؤ الفرص، بدل أن نعامل السم بمنطق: لو كان الفقر رجلا لقتلته. هذا التصرف تجاه السم والسمو يقتضي التصالح مع الذات والتعقل الكافي تجاه الآخر. لذا، للظن المتعقل الرزين أن يغفر للنية السيئة الكثير من شطحاتها حتى ننتقل من ساحة الحرب إلى جنة الحب.
بالتالي، فإن الابتعاد عن المضامين المحنطة في الكلمات قد يساعد على كسر العود السلبي فيما عوّدونا على التعامل معه بسلبية. أخذ مسافة ذهنية من المضمون المتداول للكلمات يساعد على فك الارتباط بين اللغة وضحاياها المغرورين المصابين بمرض الفصاحة الموروثة دونما إعمال للعقل. يحررنا من إيديولوجيا الحرب وهابيتوس[1] العداوة.
اقرأ لنفس الكاتب: بداية همنا مع أمريكا
ليست الفصاحة ترديدا لما تمّ حفظه عن ظهر قلب من تعابير منقولة من غابر الأزمان الماضية وقد سُكّتْ تحت سياط العبودية أو الوصاية القبلية أو الأبوية أو الذكورية. بل الفصاحة تدبـُّـرٌ فيما يعبر به بسيطا لكنه مطابق للمشاعر الفعلية الحية. بقليل من رصيد اللغة، بلا تكلف ومع كثير من التعفف والبعد عن التجريح بسكاكين الإهانة.
الفصاحة الموروثة المستهلكة تشغل “الفصيح” عن نفسه فلا ينصت لها ولا ينتبه لهمومها فيعيد إنتاج همومه موزعها على الغير. والفصاحة الذاتية تعبير سهل الكلمات بليغ المعاني، لأنها فيض من غيض الصدق. الفصاحة الذاتية استثناء كلامي لقاعدة إصغاء للآخر. ليست الفصاحة الذاتية سوى تعبير ضروري مقتضب حيث المعنى حياة والمبنى تمظهر حي مفيد.
ليست الصحة الجماعية سوى تأقلم الأفراد مع القيم المتفق حولها من طرف الجماعة نفسها.
بين حسن النية أو سوئها، بين حسن الظن أو سوئه، يختار الكلام جمال العطر أو رائحة النتانة، هل يعتذر الإنسان عما “اقترف” من الحب؟ أم يتمادى فيما جرّح وأهان عن سبق إصرار وترصد؟ شرعية التمادي أو الاعتذار رهينة بِنِيَّةِ الحديث وحسن أو سوء ظن تلقي الحديث.
في كل العصور والأزمان; كمنت الحرب أو تجلى الحب حسب التطابق ما بين نية المتحدث وظن المتلقي. فإن حَسُنَا معا حصل التراضي. وإن حَسُنَ بعضهما وساء البعض الآخر نتجت الحرب رغم أنف الحب في ضفة من الضفتين. فالسالب أقوى من الموجب. خصوصا إذا انخفضت قيمة العقل وارتفع منسوب النقل. فالنقل يثقل النفس والذهن معا. هذا الأمر لا يخص الأصوليين الدينيين، بل يصيب بعذبه الليبراليين واليساريين.
نعم، إذا اشتغل العقل باستمرار على ما توفره التركة النفسية والذهنية، يكون بمثابة ماكينة لمعالجة نفايات القول الموروث. فيأتي الحديث صافي المبنى نقي المعنى كالماء الزلال ينشأ منه كل شيء نابض بالحياة. وتتعافى بيئة التواصل.
عود على بدء
عندما تذكر عبارة “زير نساء” ضمن احتفال فرِح ملئه المودة والمشاركة في صب نبيذ المحبة، تتخذ العبارة (زير نساء) موقع النافورة المركزية حيث يتلاعب المحبون ويتقاذفون مياه الفرح سعداء بما يصيبهم من بلل. فالنية حسنة والظن حسن. حتى المستنكف عن المشاركة يمتلئ حبورا وهو ينظر من بعيد. لأنه لا يرى في الملاعبات والمعاكسات سوى براءة الطفل الكامن في كل واحد فينا. وإن تسرب مرض فردي داخل بيئة الصحة الجماعية فسوف يمسه العلاج من حيث لا يدري. وفي هذه الحالة سيتغلب الموجب الجماعي على السالب الفردي.
إن وجد شخص مذكر محافظ القيم بين نساء متحررات، بدل أن يعتبر هو “زير نساء” سيوصف سلوك التحرر من جانب النساء زيغا. فيعوض زير النساء بزيغ النساء.
ليست الصحة الجماعية سوى تأقلم الأفراد مع القيم المتفق حولها من طرف الجماعة نفسها. قد تكون تلك القيم في العموم محافظة، ساعتها سيعتبر – بالمعنى السلبي- نَزِقاً زير نساء من يناقض السلوك المحافظ داخل الجماعة المحافظة. بينما يتلظى الفرد المحافظ في نيران محافظته وهو يعيش تجلي الحرية في سلوكات الأفراد الأحرار ضمن جماعة متحررة من مسبقات المحافظين.
عدم تأقلم الفرد مع قيم الجماعة، حيث يوجد، تجسيد لتنافر حالة نية السالك مع ظن متلقي السلوك.
وأما إن وجد شخص مذكر محافظ القيم بين نساء متحررات، بدل أن يعتبر هو “زير نساء” سيوصف سلوك التحرر من جانب النساء زيغا. فيعوض زير النساء بزيغ النساء.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: الكذب في سبيل الله… أو ماركس حنيفا مسلما
وإن وجد بيننا ها هنا من سيشرح لنا هذه التناقضات وهو لا يستطيع النطق بحرف الراء، فيخرجها غاءً، ساعتها سنكون أمام وضع ثالث. لن نفهم معه متى يريد الشخص المتمتم متى يعني زير النساء ومتى يعني زيغ النساء.
بالمناسبة، في إحدى حلقات برنامج تلفزي لقناة غربية (Talent Voice)، جاء شاب يتلعثم لعرض موهبته/تلعثمه على لجنة التحكيم. وهو يؤدي تلعثمه، كانت اللجنة حائرة صابرة صبر أيوب منتظرة شكل الإبداع الذي سيعبر عنه بعد طول انتظار مجرد إكمال معاني أولية يريد إبلاغها. وأثناء انتظاري مبلغ كلامه المتقطع، تخيلت ظن مصطفى لطفي المنفلوطي الذي ترجم رواية “الفضيلة” به، مقابل ظن الكاتبة فيرجينيا هيلد مؤلفة كتاب “أخلاق العناية”. تخيُّلي ردود فعل كل من المنفلوطي وهيلد جاء بناء على اختلاف الرومنسية العاطفية المحافظة للمنفلوطي (كان رجعيا فيما يتعلق بتحرر النساء) عن العقلانية الغيرية المتعاطفة لهيلد.
الحاصل من إبداع الشاب المتلعثم هو اقتراحه أن يستعمل صوته في برنامج الجي بي إس (GPS)، كي يرشد السائقين إلى الاتجاهات المرغوب الوصول إليها. مضيفا دعوة السائقين في كل مرة الرجوع خلفا لأنهم يتجاوزون المنعطفات التي يريد أن يرشدهم للانعطاف معها، لأن سرعة سير السيارات تفوق سرعة صوته، فأضحك لجنة التحكيم بصدد مقترحه بعدما تفادوا الضحك بصدد التلعثم في حد ذاته احتراما لحالته التي لم يخترها، كما أضحك لجنة التحكيم عندما روى حديثه يوما مع متلعثم، فظن المتلعثم الثاني أن الشاب المتلعثم يستهزئ منه ليفاجئه أنهما معا متلعثمين ولا مجال للاستهزاء الواحد بالآخر…. تلك حالة أخرى في التلاقي بين نية المتحدث وظن المتلقي. وتلك مأثرة الغرب في تجاوز عطب “الهُمَزةٍ اللّمَزَةٍ” من الناس حسب نواياهم وظنونهم.
[1] هابيتوس: مجموع التصرفات والمهارات وطرق العمل المكتسبة اجتماعيا