الشُّعوبية: حين أشعرَ العربُ “المواليَّ” بالميز العرقي الذي نهى عنه القرآن والرسول! 2/1
ظهر مفهوم الشعوبية لأول مرة في كتاب الجاحظ “البيان والتبيين”، وقد جرت عادة أهل النحو ألا ينسبوا إلى جمع (شعوب)، وطالما أن مفردها (شعب) لا يفي بالمعنى لأن المقارنة هنا بين العرب والشعوب الأخرى، جرى الاستثناء.
ظهر محمد بالإسلام دينا، وكان بحسب القرآن، مبعوث الله إلى الناس جميعا… استجاب له في البدء “المهاجرون والأنصار”، وكان عليه أن يمضي بدعوته في باقي العرب، ثم لاحقا في غير العرب.
على أنه ثمة من غير العرب من آمنوا برسالته منذ البداية. كانوا أفرادا قلة، أشهرهم: سلمان الفارسي، بلال الحبشي، صهيب الرومي[1].
ولأن رسالته هذه كانت عالمية، موجهة إلى كل الناس، فقد أكدت منذ البداية على أنه لا فرق بين الذين يؤمنون بها، وأنه لا فضل للعرب فيها على الناس لمجرد أنها ظهرت فيهم.
جاء في القرآن: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”[2].
كانت “الفتوحات” التي بدأت فعليا مع عمر بن الخطاب نقطة تحول في تاريخ الإسلام؛ ذلك أنه سيمسي من الأجانب مسلمون أكثر من أي وقت مضى… وهؤلاء، سيحملون اسم “الموالي”!
ثم في “حجة الوداع”، أكد النبي: “يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب”.
لم يمهل العمرُ النبيَّ ليشهد أفواج غير العرب يدخلون الإسلام، قهرا أو طواعية، أثناء ما سمي بـ”الفتوحات”.
اقرأ أيضا: توريث جاه النبوة: سياسة للناس، توسيع للنفوذ ومراكمة للثروات! 3/2
لكن “الفتوحات” التي بدأت فعليا مع عمر بن الخطاب، كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام؛ ذلك أنه سيمسي من الأجانب مسلمون أكثر من أي وقت مضى.
… وهؤلاء، سيحملون اسم “الموالي”!
حفّ المسلمون الأوائل، وإيمانُهم بعدُ فتيّ، المواليَّ بالرعاية وأحسنوا معاملتهم، ولم يشعروهم بالهزيمة، هم الذين ضاقوا المرارة سابقا أمام قريش، فكان أن سعد كثير من الموالي لدخول الإسلام.
كان من العرب المسلمين من لم يلتزم بما فرضه الإسلام للموالي من حقوق، بل ونظر إليهم باستعلاء واحتقار، تجسدهما ثنائية المنتصر والمهزوم (المالك والمملوك).
والحال هذه، دخلوا الحياة العربية فعرفوا لغة العرب وألفوا عادتهم، كما ونظموا الشعر، بل وانتسبوا إلى قبائلهم، فذا يقال له التميمي، والآخر العامري، وهكذا، لا يميز من ابن القبيلة إلا إذا قدم اسمه بـ”مولى”.
لكن المسلمين العرب لم يكونوا كلهم كذلك؛ فكان هناك من لم يلتزم بما فرضه الإسلام للموالي من حقوق، بل ونظر إليهم باستعلاء واحتقار، تجسدهما ثنائية المنتصر والمهزوم (المالك والمملوك).
يقول المفكر المصري أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام”: “وغلا كثير منهم في ذلك فشعروا بأن الدم الذي يجري في عروقهم دم ممتاز، ليس من جنسه دم الفرس والروم وأشباههم! وتملكهم هذا الشعور بالسيادة والعظمة، فنظروا إلى غيرهم من الأمم نظرة السيد إلى المسود… وكان الحكم الأموي مؤسسا على هذا النظر”.
الذي حدث أن بعض الموالي، إذ أملوا في أن تكون هذه الحالة شاذة، سرعان ما خابت آمالهم بصعود بني أمية إلى سدة الحكم.
وصل أمر احتقار الموالي ببعض العرب حتى قيل إن الصلاة لا يقطعها إلا ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى!
يقول الباحث العراقي أحمد فرج الله في كتابه في “الزندقة والشعوبية”، إنه باستثناء بعضهم، كـعثمان بن عفان، لم يُسلم بنو أمية إلا حين قويّ الإسلام وأخفقوا في صده، وبعدما رأوا أن امتناعهم عنه سيحول بينهم وبين طموحهم في السلطان.
الواقع أن الأمويين، يضيف ذات الباحث، كانوا ذوي نزعة قبلية متعالية، لا يحسنون التعامل مع العرب المسلمين أنفسهم، ويشعرون بالتفوق والفضل عليهم، فكيف بغير العرب من الموالي الذين جلبتهم “الفتوحات” قهرا!
ومع أن الموالي حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد عبروا عن أي موقف بهذا الصدد، وقد كانت غالبيتهم من الفرس، إلا أن أحوالهم كانت قد بدأت تسوء.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي يكتب: في اليوم العالمي للغة العربية…حقائق وأساطير
يؤكد الباحث السوداني فؤاد شيخ الدين عطا، في مقاله “الشعوبية… خطاب الرفض في الثقافة العربية والإسلامية”، أن الدواعي التي أفرزت الشعوبية كثيرة، وذاك ما يمكن أن نلمسه بسهولة في عدد من روايات الإخباريين.
جاء في “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي أن معاوية بن أبي سفيان عزم في وقت ما على أن يقتل شطر الموالي، ويدع الشطر الثاني لإقامة السوق وعمارة الطريق. لم يثنه عن ذلك إلا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب الذي نهاه عنه ونصحه بعدم إمضائه.
وفي “الأغاني” لأبو الفرج الأصفهاني: “دخل أعرابي على مجزأة بن ثور السدوسي وبشار[3] عنده وعليه بزة الشعراء، فقال الأعرابي: من الرجل؟ فقالوا رجل شاعر، فقال: أمولى هو أم عربي؟ قال: بل مولى، فقال الأعرابي: وما للموالي والشعر”.
اقرأ أيضا: الشعر ديوان العرب في الزندقة أيضا… قبل أن يطاله مقص رواة الأخبار! 2/1
نقرأ أيضا في “عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينوري: “وقدّم نافع بن جبير بن مطعم رجلا من أهل الموالي يصلي به، فقالوا له في ذلك، فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه”.
وصل أمر احتقار الموالي ببعض العرب حتى قيل إن الصلاة لا يقطعها إلا ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى!
ارتفعت أصوات الموالي تطالب بالمساواة بين العرب وبين باقي الشعوب المسلمة… من هذا المنطلق، برزت “الشُّعوبية” وكانت في مرحلتها الأولى تعرف أيضا بـ”حركة التسوية”؛ أي المساواة بين العرب وغيرهم.
لكن إذ صار بين “الموالي”، الشاعر والأديب والمفكر، بدأ هؤلاء يشعرون بالمهانة… وبعدما كان وازع الدين يخرس أفواه آبائهم فلا يتجرؤون على التبرم والشكوى، كان لجيل الموالي الجديد رأي آخر.
حينها، ارتفعت أصوات الموالي تطالب بالمساواة بين العرب وباقي الشعوب المسلمة… من هذا المنطلق، برزت “الشُّعوبية” وكانت في مرحلتها الأولى تعرف أيضا بـ”حركة التسوية”؛ أي المساواة بين العرب وغيرهم.
بالمناسبة، ظهر مفهوم الشعوبية لأول مرة في كتاب الجاحظ “البيان والتبيين”، وقد جرت عادة أهل النحو ألا ينسبوا إلى جمع (شعوب)، وطالما أن مفردها (شعب) لا يفي بالمعنى لأن المقارنة هنا بين العرب والشعوب الأخرى، جرى الاستثناء.
اقرأ أيضا: الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
والشعوبيُّ وفق ابن منظور (لسان العرب)، هو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم. ذات المعنى نجده في قواميس أخرى.
فكيف إذن بعد كل ما تقدم، توصف الشعوبية بالحركة التي تُصغر شأن العرب؟
الذي حدث أن هناك من الشعوبيين من لم يتوقف عند التسوية، إنما أخذوا يقلبون الطاولة على العرب بالحط من أمرهم، وذاك ما ظهر مع بداية العصر العباسي وسنتابعه في الجزء الثاني.
في الجزء الثاني، نتابع كيف سعى موالي العصر العباسي إلى قلب الطاولة على المسلمين العرب.
لقراءة الجزء الثاني: الشُّعوبية: حين سعى مَواليّ العهد العباسي إلى قلب الطاولة على المسلمين العرب! 2/2