عن الغزالي وابن رشد: مشاهد من جريمة اغتيال
منذ سنوات مرت؛ “أيام العز” لدى عشاق فن السينما؛ جاءنا المخرج السينمائي المصري الجريء يوسف شاهين بعمل يحمل عنوانا دالا: “المصير”. الفيلم كان من بطولة الفنان المقتدر نور الشريف الذي …
منذ سنوات مرت؛ “أيام العز” لدى عشاق فن السينما؛ جاءنا المخرج السينمائي المصري الجريء يوسف شاهين بعمل يحمل عنوانا دالا: “المصير”.
الفيلم كان من بطولة الفنان المقتدر نور الشريف الذي لعب دور الفيلسوف العقلاني وقاضي قضاة الأندلس أبو الوليد بن رشد، وليلى علوي كامرأة مسيحية تعيش داخل مجتمع تتعايش فيه الديانات دونما مشاكل أو اقتتال، والفنان محمود حميدة في دور الخليفة المنصور حاكم بلاد الأندلس، والفنان والمطرب محمد منير كمغني شهير سيتعرض لمحاولات قتل على يد التكفيريين والمتشددين ممن ينصبون أنفسهم حراس الدين وسدنته والذين كانوا يكفرون كل من يحترف الغناء أو يتعاطاه، وفي الأخير ستتم تصفية المغني بفتوى دينية طائشة.
يناقش الفيلم تيمة في غاية الدقة وهي إشكالية محاربة العقل والتضييق عليه من طرف الفقهاء ذوي النفوذ والمقربين من دوائر القرار، ممن يجتمعون بالخليفة ويحملون إلى حضرته انتقادات ضد ما كان يكتبه ابن رشد من أفكار وما كان يناقشه من إشكاليات ذات العلاقة بالدين وعلاقته بالفكر وبالفلسفة.
حوربت الفلسفة وهي تشق طريقها نحو التأسيس لها كنتاج محلي يجعل منها فلسفة عربية وإسلامية، في إطار التبيئة والترجمة واستخدام إطارها النظري لمناقشة قضايا عربية/إسلامية.
كانت الفلسفة صنعة دخيلة على الأدب الكبير الذي تميزت به الثقافة العربية وهو الشعر.
وحتى لما جاء الإسلام ونزل القرآن، لم تخرج تركيبته اللغوية عن إطار الجرس الشعري المتمثل في السجع، فكانت بنية القرآن تزاوج في تناغم جميل ما بين الصياغة النثرية والجرس الشعري.
أعود لمشكلة الفلسفة ومصيرها في دنيا العرب والمسلمين. الفلسفة، هنا لم تجد الحاضنة والمرتع المناسب الذي يجعل منها ذات مكانة في تفكير المسلمين الذين كانوا قد تمثلوا الإسلام في إطار التسليم بقداسة النص وتبعية العقل لهذا الأخير.
اقرأ أيضا: استواء الله على العرش – اختلاف المذاهب والقراءات
حوربت الفلسفة وهي تشق طريقها نحو التأسيس لها كنتاج محلي يجعل منها فلسفة عربية وإسلامية، في إطار التبيئة والترجمة واستخدام إطارها النظري لمناقشة قضايا عربية/إسلامية.
كان أول الفقهاء المسلمين ممن تصدوا لها بالنقد والتجريح، الإمام الغزالي صاحب كتاب ” تهافت الفلاسفة”. الغزالي عاش تجربة متقلبة من العطاء الفلسفي بلبوس ديني، إلى التنظير الموسوعي في مجال الفقه بأمور الدين “إحياء علوم الدين”، إلى الخوض في النقد السياسي “فضائح الباطنية”، إلى التجربة الصوفية في نهاية المطاف “مشكاة الأنوار”.
عاش الغزالي في العصر السلجوقي، وكيف مواقفه الدينية والسياسية مع ما اعتمل في المجتمع الإسلامي من عداء رهيب لكل ما هو دخيل من الثقافات الأجنبية وعلى رأسها الفلسفة.مات الغزالي وترك كتابا يكفر فيه الفلاسفة ويسفه رأيهم. ولما جاء ابن رشد بعد ما يزيد عن السبعين سنة، حاول رد الاعتبار للعقل الفلسفي القائم على الجدل والتفكر وطرح الإشكالات ذات الارتباط بهموم وقضايا المجتمع.
اقرأ أيضا: حينما رفس القوم ابن تيمية لتجسيده جلوس الله
رد في كتاب رديف حمل عنوان “تهافت التهافت”. على مزاعم الغزالي ودحض طروحاته حول تكفير الفلاسفة. وألف كتابا آخر بعنوان “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) من الاتصال”، ليؤكد بأسلوب حجاجي عدم تعارض هدف الدين مع هدف الفلسفة؛ فكلاهما يحمل هم البحث والوصول إلى الحقيقة، وأن الحق لا يعارض الحق، بل يطلبه ويحث عليه، وأن الفلسفة أخت الدين لا يختلفان إلا في المنهاج الذي يسلكه طالب الحقيقة: إما سبيل العقل (التفكير العقلاني المنطقي) أو سبيل النقل (التفكير الوجداني والميتافيزيقي).
مات الغزالي وترك كتابا يكفر فيه الفلاسفة ويسفه رأيهم. ولما جاء ابن رشد بعد ما يزيد عن السبعين سنة، حاول رد الاعتبار للعقل الفلسفي القائم على الجدل والتفكر وطرح الإشكالات ذات الارتباط بهموم وقضايا المجتمع.
لما ظهرت كتب ابن رشد وقرأها الناس، لم يفهمها العوام، ولم يستوعب مضامين ما كانت ترمي إليه أفكار فيلسوف كبير مثل ابن رشد إلا الطبقة المثقفة من الفقهاء الذي كانوا مع الطرح الغزالي في محاربة الفلسفة، وكانوا على عداء تام مع الفكر الرشدي الذي كان يكشف عن تهافت أعداء العقل والتفكير العقلاني.
فيلم يوسف شاهين “المصير” يناقش تكالب السلطتين الزمنية والدينية لمحاصرة فكر ابن رشد ، بنفي الرجل من الأندلس والمناداة بحرق كتبه، لولا تهريب نسخ منها إلى مصر وإيطاليا لكان مصير كتابات ابن رشد الضياع.
يحكي الفيلم مصيرا بحجم المؤامرة على كل ما من شأنه سحب بساط السلطة من يد فقهاء كانوا دوما إلى جنب الخليفة يستفيدون من قربهم من دائرة السلطة السياسية لنشر الفكر الذي يكرس تبعية العقل للنقل، وخضوع المجتمع لسلطة الدين دون تساؤل أو استفسار أو نقاش يحضر فيه العقل كحكم وفيصل عند تعارض النص مع الواقع وغيرها من مشكلات العصر .
تم إخراس صوت العقل منذ زمن بعيد، وفيلم المصير يحكي صورا من هذه الجريمة التاريخية التي ارتكبها العرب والمسلمون باسم الدين وباسم الإسلام ضد التيار العقلاني الذي جسده ابن رشد في غرب الإسلام.
لما ظهرت كتب ابن رشد وقرأها الناس، لم يفهمها العوام، ولم يستوعب مضامين ما كانت ترمي إليه أفكار فيلسوف كبير مثل ابن رشد إلا الطبقة المثقفة من الفقهاء الذي كانوا مع الطرح الغزالي في محاربة الفلسفة، وكانوا على عداء تام مع الفكر الرشدي الذي كان يكشف عن تهافت أعداء العقل والتفكير العقلاني.
في مشهدين متشابهين أحدهما ظهر في بداية الفيلم وهو مصير العالم والفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو الذي أعدمته الكنيسة بسبب أفكاره العلمية التي تعارضت مع ما كان سائدا في الأوساط من أفكار دينية مغلوطة حول مركز الكون وحول العالم … والثاني في نهايته وهو الحكم السياسي/الديني على ابن رشد بالنفي خارج وطنه مع إعطاء الأمر بحرق كل كتبه.
منذ ذلك التاريخ، وبينما وصلت نسخ من كتب ابن رشد إلى إيطاليا ومنها إلى باقي أوربا، واستفاد منها الفكر الأوربي، كان المسلمون يتراجعون على مستوى الفكر والعلم والعطاء الثقافي، وبقي الحال هكذا يسود فيه الإستبداد السياسي من جهة، والتفكير اللاعقلاني من جهة أخرى؛ الشيء الذي كرس لنا تعطيل العقل وتقديس النصوص ومحنة الثقافة في ظل انتشار الخرافة باسم المقدس الديني.