نور الدين الزاهي يكتب لمرايانا: سوسيولوجيا السر
لا يمكن للمجتمع وكذا العلاقات الاجتماعية أن تحيا من دون جرعات كبرى أو صغرى من السر وفي الآن ذاته جرعات كبرى أو صغرى من خيانته وإفشائه، وإلا، كنا سنعيش كلنا داخل “جمعيات وجماعات سرية سياسية أو صوفية مغلقة”.
لكن، كيف يمكن للسر أن يخلق متانة رابط الصداقة والصديق وفي الآن نفسه أن يهددها بالانحلال والتفكك؟ كيف يمكن للسر، وهو ضرورة للحياة الاجتماعية، أن يحيا داخل علاقات الحب أو الزواج ؟
“Autrui est secret parce qu’il est autre”
J .derrida
من زاوية نظر علم الاجتماع، يفترض ظهور السر علاقة اجتماعية بين فردين اثنين، أو بين فرد و جماعة، مثلما يفترض تفاعلا وتبادلا بينهم. خارج هته العلاقة الاجتماعية، لا وجود اجتماعي للسر.
يتطلب الوجود الاجتماعي للسر قصدية ووعيا، فمالك السر الأصلي عليه أن يقصد آخرا بوعي كامل وأن ينتقيه كي يسره سره. في الغالب الأعم، يكون هذا الأخير قريبا مقربا أو صديقا حميميا موسوما بفضيلة الثقة والأمانة والصدق. وجود السر إذن ودوامه لصيقان بالثقة والأمانة والصدق، وفي الآن نفسه بما يضادهم من خيانة وكذب وعدم ثقة.
يقوي السر في صلته بالثقة والأمانة، الروابطَ والعلاقات الاجتماعية ويمنحها عمقا، وبصلته بالخيانة والشك يكشف عن طبيعة التفاعلات الاجتماعية كما تتشكل في حياة كل جماعة. السر يوحد لكنه أيضا يفرق، ويجذب لكنه أيضا ينبذ ويبعد. يستدعي ثقل الصمت والصبر لكنه يفرض خفة الكلام وحرية القول.
إنه، بلغة عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل، شكل من أشكال الاجتماع الإنساني، أي شكل (forme) وإطار يمنح المادة البشرية (التفاعل) شكلها الاجتماعي بما هي تواجد وتجاور و إرساء للتفاعل وفي الآن نفسه حدود وتباعد وصراع…
السر قول يفترض عدم القول (الصمت) كي يظل سرا
لذلك، يعتبر زيمل أن السر وخيانته الممكنة عنصران أساسيان للتفاعلات الاجتماعية، قد يكونا متعارضين من الناحية الأخلاقية، لكنهما من الزاوية السوسيولوجية ضروريان لكل حياة اجتماعية.
لا يكون السر سرا إلا إذا تم إفشاؤه (خيانة أمانة حفظه). عملية إسرار السر من طرف فرد لآخر هي إفشاء مشروط، خيانة مشروطة بعدم الإفشاء.
تلك مفارقة السر والتي تجعل من عملية الإسرار إسرارا وإفشاء في الوقت نفسه من جهة وسيرورة من جهة ثانية.
في هذا السياق، قد نتحدث عن السر الثنوي والثلاثي والرباعي… سيرورة السر وديناميته يصلان السر بالكذب والتضخيم والزيادة والنقصان؛ وكلها عناصر تقوي التفاعل وتوسع دائرته الاجتماعية. السر قول يفترض عدم القول (الصمت) كي يظل سرا. إنه معطى ومعلومة وقول، لا شبه بينها وبين كل المعلومات والمعطيات.
تختلف معلومة السر عن أخواتها بكونها تتطلب الإبعاد القسري عن التداول الاجتماعي. عليها أن تخزن في البئر (بالمناسبة، استعارة البئر بقدر ما ترتبط بالسر ترتبط كذلك بالحقيقة). استعارة البئر هي من يرفع قيمة معلومة السر مقارنة بباقي المعلومات العمومية. الشكل الاجتماعي (السر) هو ما يمنح لمضمونه قيمة وليس العكس. إنه المحفز الطاقوي الذي يفرض حفظ وكتمان المعلومة وهو ما يشعل نار الرغبة في إفشائها. السر ثقيل التحمل نفسيا واجتماعيا، لذلك استمرايته كسر تتطلب التقاسم والتفاعل بما هما أهم أعمدة الحياة الاجتماعية لكل جماعة.
يتعلق الأمر بمشكلة تنتمي إلى سياق المجتمعات المعاصرة؛ فقبل هذا السياق، لم تكن علاقات الزواج تشترط وتفترض علاقات عاطفية ومشاعر حب معلنة
لا يمكن للمجتمع وكذا العلاقات الاجتماعية أن تحيا من دون جرعات كبرى أو صغرى من السر وفي الآن ذاته جرعات كبرى أو صغرى من خيانته وإفشائه، وإلا، كنا سنعيش كلنا داخل “جمعيات وجماعات سرية سياسية أو صوفية مغلقة”. لكن، كيف يمكن للسر أن يخلق متانة رابط الصداقة والصديق وفي الآن نفسه أن يهددها بالانحلال والتفكك؟ كيف يمكن للسر وهو ضرورة للحياة الاجتماعية أن يحيا داخل علاقات الحب أو الزواج ؟
يفترض جورج سيمل أن الحميمية الكلية والكاملة والشاملة لا تتوافق مع علاقات الصداقة، لأنها تعدم الإختلاف بكل ميولاته. على الصديق أن يظل مختلفا (مالكا لقسط من أسراره) كي تدوم الصداقة ومعها فضول المعرفة والتعرف. يمنح السر للفرد وللعلاقة البَينفردية عمقا يضيئه ويعلنه بريق العين المنعكس على الداخل والباطن. بريق يعلن للخارج أن الأمر يتعلق بتجربة الصداقة وليس بفضيلة الصداقة، بتجربة الفرد وليس بأناه، بفردانيته واختلافيته وليس بمطابقته وشبهه للآخرين.
يثير جورج سيمل، في هذا السياق، إحدى خاصيات المجتمعات المعاصرة والتي تتمثل في تطوير وتنمية الصداقات الاختلافية التي تكون فيها حصة وقسط الفضول والسر معلنتين وواضحتين.
إن علاقات التجاذب والحب بين الأفراد تفترض قسطا من الغموض و الضبابية يوفره قسط السر الضروري لكل حياة اجتماعية جماعية أو بَينفردية.
تشترط علاقات الحب والزواج، في العادة، إفشاء كل الأسرار، ومن ثم دفع الوجود الاجتماعي للسر إلى الدرجة الصفر. السر يهدم الوضوح والشفافية ويدفع نحو الكذب والكتمان والتستر… وهذه عناصر كلها مفترض فيها أن تقوض علاقات الحب والزواج.
يتعلق الأمر هنا بمشكلة تنتمي إلى سياق المجتمعات المعاصرة؛ فقبل هذا السياق، لم تكن علاقات الزواج تشترط وتفترض علاقات عاطفية ومشاعر حب معلنة؛ فنظم الزواج ظلت محكومة بنظم القرابة والاقتصاد والهبة. لذلك، لم يكن أمر الشفافية والوضوح والثقة والأمانة، من دعامات العيش الاجتماعي الجماعي.
تنبني علاقات الحب والزواج، من زاوية نظر السر، على مفارقة كون علاقة الانجذاب بين الناس يتخللها ويسندها قسط من الأسرار والكتمان، ويتم احتضان الأسرار بوصفها دعامة غنى للتفاعل والتقارب والتحاب والتعارف أكثر، لكن على أمل إفشائها و كشفها. بذلك، يتحدد التطور البعدي لمثل هكذا علاقات بالميولات المضادة لكل سر وكتمان. وضع قد يخلق التباعد والنبذ والابتعاد والصراع…
ليس التباعد والابتعاد والصراع والكتمان والسر… نقائض مدمرة للتجاذب والتقارب والحميمية والحب والإفشاء… على اعتبار أن الاجتماع الإنساني La sociation، على الأقل حسب سيمل، يفترض وجوده ضمن ما يفترض كل هته العناصر في تداخلاتها وتناقضاتها وتنافساتها وصراعاتها وجمالياتها؛ فلا حياة اجتماعية من دون جسر يصل ويفصل وباب تفتح وتغلق.
إن علاقات التجاذب والحب بين الأفراد تفترض قسطا من الغموض والضبابية un flou يوفره قسط السر الضروري لكل حياة اجتماعية جماعية أو بَينفردية.