مشروع قانون 22.20 قبل الميلاد
سنتعلم لغة العيون لنستبدل نظرات الإعجاب بنظرات التنبيه ونحن نتجول بين رفوف المتاجر، لنخبر أحدهم عن انطباعاتنا حول منتوج ما؛ وسنتعلم كتابة العربية من اليسار إلى اليمين لنعني بالأشياء ضدها… سنتعلم الكثير ونحن في الرمق الأخير من فقدان القدرة على الكلام.
لا أفقه كثيرا في القانون، كأغلبية الباحثين عن الاحتماء به من أبناء هذا البلد الأمين، وتضيق نفسي بين تفاصيله حيث يطيب لشياطين التجارة والسياسة المقام. لكن ما أفهمه وسط كل الثقل الذي نعيشه، أننا بحاجة لفرصة بوح، لحائط لا يضيق بتدوينات مثخنة بجراح تتوارى خلف لغة الأمل، لفتوحات نضال افتراضي بدأ يرضي غرور “فراخ النضال” الذين لم تحمل أجسامهم ندبا، ولا عاشوا رعب الاعتقال والمتابعة والتضييق كما “نسور النضال” في زمن الكلام غير المباح.
لكن قانون النقرات الجديد فرض نفسه، وهو للتذكير ليس موجة شبابية كما يردد بعضهم، متناسيا أن مواقع التواصل “أرض ميعاد” افتراضية يحج لها كل مخنوق من لعبة الوصاية اللعينة التي تقاوم الاندثار، وهو لمن تجاوزوا مرحلة الشباب، نفخة روح في أحلام معلقة.
لكن، حدث أن غفونا كما العادة واستيقظنا على “عظمة نقاش” جديدة يحلو لأحدهم أن يرميها في الوقت الذي يختاره، ليسجل نقاطه أو يمارس لعبة جس نبض لن يكون لنا من غنيمتها سهم، ككل النقاشات الافتراضية السابقة التي ينفخها وهم اللايكات، وتدوير الكلام قبل أن تتبخر أمام “عظمة جديدة” في الاتجاه المعاكس، حيث لا أحد من معسكر “مع” أو “ضد” يعلم من يلعب بمن… لنقسم بأغلظ الأيمان أن هذا آخر وقوع في فخ سجالات مفتعلة.
اقرأ أيضا: أسماء بن العربي: مناضلو الوسم
لكن، يبدو أننا ندمن الوقوع في الفخ، وفاء لتقليد عريق تناقلته جيناتنا الساذجة بنقاء.
مع مشروع القانون 22.20، نجتر نفس فصول القصة، نحن “الشاهد اللي مشفش حاجة”، حيث غضب بعضنا من فقرات استلت بعناية من طرف يعرف ما يشعل غضبنا. وغضب بعضنا من شخص نطلق عليه في كل فصل من فصول القصة اسم “جهة ما“، وإن كانت هذه الـ “جهة ما” مصدر فرحنا في تسريبات سابقة يتناوب عليها من احترفوا لعبة تغيير الأقمصة في لعبة سياسية مملة يقتطع ثمن تذاكرها من جيوبنا القاحلة، وغضب بعضنا من توقيت نعلم أن عقاربه تدمن لسع غفلتنا، بينما غضب بعضنا فقط لأنه يجب أن يكون مع الغاضبين حتى لا يجد نفسه وحيدا بلا موقف.
بعد أن بلعنا الطعم، لا بأس أن نستله كما العادة بأقل ضرر، ولنتساءل لأي جهة تنتمي تلك اللغة البدائية التي نسفت بجرة قلم وفي “خلسة حكومية” كل ما راكمه هذا البلد في رحلة حقوقية ما كان أحد ليتصور أن “ختامها مسخ” قانون يقول لنا “صه”… لا تنتقدوا. لا تعبروا. لا تشتكوا. لا تشككوا. لا تسموا الأشياء بمسمياتها … خلاصة الأمر، لا حاجة لكم بالكلام. لا حاجة لكم باللغة. عودوا لكهوفكم، واتركوا لنا امتياز صيد الفرص في عز أيام المحن.
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: أيام الحجر…. عن صحافة الداخلية ووزير الـعــ (ــز) ل!
أوكي.. سنفعلها وسنعود إلى كهوفنا عبر بوابة 22.20 قبل الميلاد. وحين تحرق الكلمات والمواقف جوفنا، سنتوافق سرا وفي غفلة منكم، على رموز جديدة نحفرها على جدران غرفنا، مطابخننا، مراحيضنا… كما فعل أجدادنا الأولون وهم ينقشون شرارة المعاني الأولى على جدران كهوفهم الباردة التي استبدلناها بكهوف اقتصادية قد تضيق برموزنا ونحن نخط عليها كل مساء، فصول رحلات صيدنا بدون غنيمة، كيف نتكدس ببطن “دابة بيضاء كبيرة”، كيف نفلت بمشقة ما بقي من أنفس من مطبات تضعها صغار الديناصورات في طريقنا وهي تتسلى بركضنا اليومي، وهي تمد لنا ذيولها كجسر عبور نحو “أمان واهم” بين أنياب كبار ديناصورات.
ستصبح لنا اهتمامات جديدة، سنتعلم الرسم بكل عصامية، فمدارسنا لا تحب الرسم والرسامين، لكنه اليوم حاجة ملحة لتعويض الكلام. وبما أن الزمن زمن حجر، لن نعلم الأولاد السباحة ولا الرماية ولا ركوب الخيل (وللأمانة، لم يكن هذا الاهتمام الباذخ من أولوياتنا). سنعلمهم لغة الطلاسم والأحجيات وفك الشيفرات. سننفث كل غضبنا في زاوية مخفية داخل لوحة تتغنى بالشروق، وسنتعلم دلالات الألوان والأشكال. سنتعلم لغة العيون لنستبدل نظرات الإعجاب بنظرات التنبيه ونحن نتجول بين رفوف المتاجر، لنخبر أحدهم عن انطباعاتنا حول منتوج ما؛ وسنتعلم كتابة العربية من اليسار إلى اليمين لنعني بالأشياء ضدها… سنتعلم الكثير ونحن في الرمق الأخير من فقدان القدرة على الكلام.
نعتذر مقدما للأجيال القادمة التي سنرهقها بطلامس ملتبسة على جدراننا. سيتوهمون عند رؤية مصباح أننا عشنا عصر أنوار. لكن الحذق منهم سيكتشف أنه كان منطفئا. سيغبطوننا على عهد الرخاء وهم يكتشفون رمز وردة وجرار وسنبلة وغصن زيتون، لكن الشاطر منهم سيسأل: لكن لا أثر لغلة. سيفترضون أن أجدادهم كانوا من الناجين على متن سفينة نوح، وهم يرون أن الفيل يقف بجانب حصان وجمل وفرس وأسد وديك وغزال ونحلة، لكن المشكك منهم سيتعقب حمامة بلا وجهة توهم الجميع بأرض يابسة لا وجهة لها. وبين الرموز، ستكون أشكال بلا معنى تنسف فرضيات أبناء الغد الباحثين عن فك ألغاز يومياتنا التي حرمنا من الكتابة عنها صراحة منذ أراد بعضهم أن يدخلنا حقبة 22.20 قبل الميلاد.
اقرأ أيضا: أسماء بن العربي تكتب: سوق في راحة اليد