المنظر بعد كورونا (1)
أود الإشارة إلى أن عنوان هذا المقال مستوحى من أحد فصول كتاب “الفلسفة السياسية اليوم” لصاحبه كريستيان دولاكمباني، “المنظر بعد المعركة”. سبب اختياري له راجع لكوني وجدت فيه التعبير المناسب …
أود الإشارة إلى أن عنوان هذا المقال مستوحى من أحد فصول كتاب “الفلسفة السياسية اليوم” لصاحبه كريستيان دولاكمباني، “المنظر بعد المعركة”.
سبب اختياري له راجع لكوني وجدت فيه التعبير المناسب لوصف الجلبة التي أثارتها جائحة كورونا، خاصة تلك الاحتمالات التي ذهبت في منحى افتراض عوالم ممكنة لعالم ما بعد كورونا، مغايرة تماما لعالم ما قبلها.
لذلك، فعبارة “المنظر” التي نجعلها مشهدا لما بعد كرونا، نسعى من خلالها ها هنا إلى تبيان تهافت تلك المناظر المحتملة، ورسم منظر مغاير نراه الأنسب لما بعد كورونا والأكثر واقعية لعالمنا.
كما أن عبارة المعركة، وإن لم تكن متضمنة في العنوان، إلا أنها في نظرنا تعبر عنها ضمنيا؛ لأنها معركة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بل إنها أبلغ بكثير حتى من تلك التي وصفت نفسها بأنها عالمية، بما أنها لم تكن في حقيقتها سوى صراعا بين قوى كبرى ليس إلا. أما معركة كورونا، فهي بخلاف ذلك عالمية بامتياز، فقد اجتاحت العالم ككل. حتى أولئك الذين لم تصلهم بعد، فهم في حالة استعداد وتأهب لها
لذلك، فهي معركة حقيقية بكل المقاييس، وما يجرى في بطونها يثير الكثير من الاستفهامات والتأملات، أكثر مما أثارته أي معركة قبلها. كما أنها لا تشذ عن المعارك والحروب في شيء، فقد خلفت وراءها وما تزال، العديد من الخسائر والأرباح، والمآسي والانتكاسات، والدروس والعبر. لذلك، فافتراض منظر قائم بعد كورونا هو أمر حتمي بالنسبة لنا، لكنه لن يكون قاتما كما نظن.
أشياء كثيرة ستتغير بالفعل. غير أنها لن تكون بذلك السوء الذي تجتره السوقة وذقون المحللين والسوداويين والحالمين من قبيل نهاية الرأسمالية، وبداية نظام عالمي جديد، إلى ما ذلك من الطروحات والفروض التي أضحت تنبعث من هنا وهناك.
كما أنني حين أقول إن الوضع لن يكون قاتما، لا أقصد أنه لن تكون هناك انتكاسات بشرية مؤلمة وحزينة. بالعكس، كثير من المجتمعات ستتكبد خسائر مادية جسيمة بفعل هذه الأزمة. ستنعكس عليها سلبا بشكل بالغ جدا، سياسيا واقتصاديا، قد لا تتعافى منها على الأقل في القريب العاجل. كما أن شعوبا كثيرة، بسبب الأضرار الروحية والنفسية اللتين تسببت فيهما الجائحة، ستعيش حالة من الانهيار والتعب لفترة من الزمن؛ وإن كان ذلك سينسى بفعل قوة النسيان، والحفلات التي ستنصبها الحكومات للتخفيف من وطأة فوبيا الوباء وآثاره المعنوية، خصوصا على مستوى الذاكرة الجمعية والسلوك الجمعي.
كل هذا قد يحدث… لكنه لن يكون بذلك السوء الذي قد يفترضه البعض. ربما حالة الرعب التي فرضها الوباء، وضغوط الحجر الصحي، وتخوفنا من عدم اكتشاف اللقاح، وانتشار الأفكار الخرافية والدينية المنذرة بنهاية العالم، وثقل الكاهل الاجتماعي، والرزء في الأحباب، وتتبع الاحصائيات… كلها أمور ربما تدفعنا إلى تخيل صورة أكثر قتامة وسوداوية مما افترضته. ربما، مثل نهاية العالم، أو تبعثر أوراق المجتمع الدولي، وانهيار دول، وهيمنة أخرى، وتحول العالم من واقع أكثر انفتاحا إلى عالم مغلق وقتالي…. لكن الحقيقة أن لا شيء من هذا سيحدث…
ما هي إلا أيام حجر معدودة ستنقضي، ومعها سيأخذ الوباء حينا من الزمن إلى أن يعدم بالكامل، لتشرق شمس يوم جديد كالعادة على نفس الأشياء المعتادة. ستتغير أمور كثيرة طبعا، سنفصل فيها في القادم من الأيام. لكنها لن تكون بذلك الحد الذي تلاعبت به هوليود وثقافة الميديا بعقولنا.