المؤثرون في زمن الوباء
الثورة الرقمية وما صاحبها من انفتاح إعلامي كبير وحرية الولوج للوسائط الرقمية، أنتجت لنا ظواهر لم يكن لها وجود من قبل، فرضت نفسها على المجال الاجتماعي والإعلامي فرضا. أبطال من …
الثورة الرقمية وما صاحبها من انفتاح إعلامي كبير وحرية الولوج للوسائط الرقمية، أنتجت لنا ظواهر لم يكن لها وجود من قبل، فرضت نفسها على المجال الاجتماعي والإعلامي فرضا.
أبطال من ورق يصل صوتهم إلى شريحة واسعة داخل المجتمع، بل ويوجهون الرأي العام… إنهم “المؤثرون”.
بقوة وفعل قواعد اللعبة الجديدة للعالم الافتراضي الذي يحكمه قانون البقاء للأشهر، بمنطق عدد الإعجابات والمشاهدات، عوض البقاء للأصلح المفيد معرفيا وقيميا والمهني أخلاقيا؛ أزيح المثقف ودوره التقليدي في التأثير، فتناسلت مواقع وصفحات وقنوات يوتوب لأشخاص لا نعرف لهم مرجعا… أشخاص أصبح لهم وجود وتأثير كبيران على جيل بأكمله، وأصبحوا يصنفون ويفتون ويوجهون فئة لا يستهان بها بعيدا عن الاعتبارات القيمية والأخلاقية والتربوية.
تابعنا مثالا لذلك في بداية إجراءات الحجر الصحي بمدينة طنجة، حيث تمكن مجموعة من هؤلاء “المأثرين”، بين دجال وعراف ومستغل للدين، من إخراج العشرات من المواطنين السذج للشارع في عز الحجر الصحي ليلا، بخطاب يحرك المشاعر ويدغدغ العواطف. خرج هؤلاء مهللين ومكبرين، وكأنها غزوة مظفرة للجهاد ضد فيروس كورونا… خرجة كسروا بها مجهود عشرة أيام من الاستنفار الإعلامي والأمني الرسمي للتعبئة والتحسيس بأهمية احترام والالتزام بتعليمات الحجر الصحي..
فكيف يمكن تفسير هذا التأثير ؟
من جهة المتأثرين المجهولي التكوين-التشكل، نجد أن الجانب الإشهاري الدعائي وقوة الإعلان والتسويق لمختلف المنتجات في السوق، وفق قانون العرض والطلب، يعد من أهم أسباب أستفال الظاهرة. بالتالي، يتم ضرب كل المفاهيم الأخلاقية والقيمية في التواصل عرض الحائط، حيت لا قواعد سوى الربح، الربح فقط… “المارغوتينغ”، كما يقال، “لادين له”. والنتيجة… تمويل مهم من طرف الشركات الكبرى للمؤثرين، لتصوير الإعلانات المختلفة وبثها عبر قنواتهم التواصلية وحساباتهم المختلفة في العالم الافتراضي، كما حدث مع إحدى المؤثرات التي عرضت على حسابها في الأنستغرام منتوجات للتطهير اليدوي لعلامة تجارية معروفة بثمن أكبر بكثير من السعر المحدد له من طرف السلطات الرسمية.
عبر تاريخنا الطويل، لا يمكن إنكار فعل التأثير في الجماهير من طرف أشخاص بعينهم ولو اختلفت السياقات والأمكنة… كم من شخص في العالم الإسلامي مثلا نجح في خلق ثورات وحراكات اجتماعية ودينية باسم “المهدي المنتظر” وتحت تأثير “الكرامات” الاستثنائية ؟ بل، لنقترب أكثر للقرن العشرين، ألم يكن لنجوم هوليود السينمائيين تأثير كبير على المعجبين والمتتبعين؟ الجواب قطعا نعم ! نظرا لاحتياج القاعدة وعموم الناس لتقليد البطل والتماهي مع خصاله وإنجازاته البطولية فيما يسمى في علم النفس الاجتماعي بالانتساب (l’affiliation)… السيرورة التي بواسطتها يتمكن الفرد من الخلاص الهوياتي عن طريق تعيين جماعته المرجعية والانتماء لها، لما تشبع لديه من حاجات سيكولوجية-اجتماعية، وتساعده على تشكل هويته. هكذا، وعلى سبيل المثال، يضع هؤلاء صور أبطالهم على القمصان ومختلف أكسسوارات الحياة اليومية ويتماهون مع تفاصيل حياتهم اليومية…
في تفسير آخر، هذا النجاح الباهر في كسر الحجر الصحي في الحالة السابقة الذكر، حسب ستويتزل [1]، قد يجد تفسيره في حديثه عن سلوكيات الأفراد في الكوارث الطبيعية، حيث “وضعيات الخطر الجماعي تجعل خيالات الأفراد تعيش انبهارا حقيقيا”، فمنهم من آمن بالفرج بعد التضرع تلك الليلة ومنهم حتى من ركع بالشارع مبتلا بالمياه الملوثة الجارية على الرصيف كما شاهدنا في فيديوهات توثق للحدث.
كما نجد تفسيرا آخر لفيشر[2] في دراسته لتأثير تواصل الجماعات (communications de masse) من ناحية النتائج الثقافية، حيث اعتبر أن وسائل الإعلام كظاهرة اجتماعية، تنتج ما يسمى بـ “ثقافة الجماعة” التي تحيل على “مجموعة من المعارف، القيم، الصور النمطية والأساطير المبهرة اعلاميا”؛ وهذا ما يجعل من المأثرين فاعلين في السلوك الجماعي بشكل كبير، بالمعنى السلبي للتأثير.
في السياق الحالي، وعلى الأقل في الوقت الراهن، بعد إدراك المواطن البسيط لخطورة الوباء ولحسن الحظ، انبرى جل هؤلاء “المأثرين” لصالح متخصصين في مختلف المجالات، ذوو صلة فعلية بالوباء، يقدمون إجابات عملية وعلمية لقلق وهواجس وأسئلة المواطن البسيط الذي لا يبحث سوى عن ما يمكنه من عيش يومه بشكل طبيعي قدر الإمكان؛ وأيضا إلى المواطن المهتم الذي يحاول مواكبة التطورات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم وفهم السيناريوهات المحتملة في المستقبل القريب أو البعيد…
ويبقى صمت هؤلاء “المأثرين” خير جواب عن ما ستؤول إليه الأمور مستقبلا في انتظار إعادة تسطير الأولويات من طرف الأفراد والمجتمع على جغرافيات الكرة الأرضية، بعيدا عن هؤلاء.
[1] Stoetzel :”la psychologie sociale” P 270
[2] Gustave-Nicolas Fischer “les concepts fondamentaux de la psychologie sociale” P 177