عادل بوتدة يكتب: العلاقة بين العنف والمقدَّس عند المسلمين
لا يمكن احتواء التعصب الناتج عن البعد الوجداني للدين وإقصاء الفئات الفاشية من المجتمع، إلا بتبني نظام علماني صريح، يحصر الشأن الديني في العلاقة العمودية بين المؤمن ومعتقداته.
… أما تأثير البعد التشريعي للنصوص المقدسة، فيتطلب إرادة سياسية واضحة، للعناية بالأعمال الأكاديمية التي تعيد قراءة الموروث الديني، بُغية إعادة صياغته، لكي ينسجم مع القيم المعاصرة
في المجتمعات الإنسانية، أهون على المرء أن يرتكب جريمة من أن يدنس المقدس. ففي الحالة الأولى يواجهه مسلسل روتيني و “مُتمدن”: تحريات ثم محاكمة تنتهي بإدانته أو إطلاق سراحه… والملف يُطوى.
أما في الحالة الثانية، فيواجهه صخبٌ عارم في مجتمعه. مؤمنون غاضبون يتجاهلون المؤسسات القضائية ويبتغون القصاص بأنفسهم ولأنفسهم.
صحافيو “شارلي إيبدو” اللذين قُتلوا، لأنهم تجرّؤا على إنجاز رسوم كاريكاتورية حول شخص الرسول، سبقهم وتلاهم آلاف الضحايا. كلهم سقطوا جرّاء نفس الميكانيزم:
أ. إنتاج فكري أو إبداع فني، يأخذ أحد المقدسات موضوعاً له.
ب. وجود مساءلة ونقد للمقدس، في جزء من أجزاء ذلك العمل.
ج. عنف شبه غريزي، من طرف فئة من المؤمنين تجاه السائل/المذنب.
لماذا تتسم ردود فعل المؤمنين بالعنف، عند مساس مقدساتهم؟
علاقة المؤمن بمعتقداته لها ثلاثة أبعاد، الأول هوياتي والثاني تشريعي والثالث وجداني.
1ــ البعد الهوياتي :
يمنح الدين هوية حصرية للمؤمن. دار الإسلام وأمة محمد وغيرها من العبارات، تعني الانتماء لمجموعة متجانسة من المؤمنين بنفس الإله ونفس المقدسات.
الخدش في المقدس يُعتبر تهديدا للبنية العقائدية برمتها، وذلك بضربه لكَينونة المُؤمن وتشكيكه في الحقائق الذاتية والمُؤسِّسة للإيمان.
يلعب الدين هنا، الدور الذي تتولاه الإيديولوجيات الوطنية الشمولية، والتي تتسم بالعداء لكل ما هو خارج الوطن/الأمة. ومن جهة أخرى، تتشكل المجتمعات البشرية من عدة مجموعات، تتباين في تعاملها مع الغريب. فتوجد دائماً فئة متشددة، تؤمن بتفوق هويتها (عرقية كانت أم دينية) عن مثيلاتها.
إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: مذبحة نيوزيلاندا. يؤلمكم أنكم… لستم القاتل!؟
تتسم رؤية هؤلاء المتعصبين للعالم، بالازدواجية المانوية التي تقسم العالم إلى لونين/معسكرين (الأبيض # الأسود والخير مقابل الشر)، حيث لا يقبلون بألوان الطيف الأخرى التي تعكس نسبية المعايير والأحكام. ينعتون الغربي بالإمبريالي المتآمر، إذا تجرّأ على وضع مكونات هوِيتهم، مَوضع الدرس والتحليل. ويصفون ابن ملَّتهم بالخائن العميل، إذا جازف وتناول أحد مقدساتهم، كموضوع لعمل إبداعي.
لا يؤمن هؤلاء الفاشيون إلاَّ بمنطق القوة. فالعالم عندهم ينقسم إلى صنفين: أقوياء وضعفاء. في أدبياتهم، التسامح والتعايش سمة الضعفاء.
مسلماتهم لا تقبل المساءلة… وكل من تجرَّأ على فعل ذلك، يعتبرونه عدوا وجب إقصائه.
2ــ البعد التشريعي :
البعد الهوياتي للدين واستغلاله من طرف القوى الفاشية، يمكن أن يفسر أعمال الإرهاب وجرائم القتل ضد المبدعين والمفكرين، لكنه ليس كافياً لتفسير خروج مئات الآلاف من الغاضبين والمنددين، للتظاهر في الشوارع العربية، ضد كل ما يعتبر مساسا بالمقدّسات.
الخدش في المقدس يُعتبر تهديدا للبنية العقائدية برمتها، وذلك بضربه لكَينونة المُؤمن وتشكيكه في الحقائق الذاتية والمُؤسِّسة للإيمان.
نعم، بالنسبة لهم الأمر بسيط وواضح… يأمر الله عباده بالجهاد في سبيله ويأمرهم الرسول بتغيير المنكر، بل ويربط ذلك بقوة إيمانهم!
3ــ البعد الوجداني:
الدافع الهوياتي ولقاؤه بالفئات الفاشية في المجتمع من جهة، والدافع التشريعي وحثّه للسَّواد الأعظم من المسلمين على التنديد بكل من يسائل المقدس من جهة أخرى، يجدان في البعد الوجداني للعلاقة بين المؤمن والدين سندا متينا.
تتسم رؤية المتعصبين للعالم، بالازدواجية المانوية التي تقسم العالم إلى لونين/معسكرين (الأبيض # الأسود والخير مقابل الشر)، حيث لا يقبلون بألوان الطيف الأخرى التي تعكس نسبية المعايير والأحكام.
لا ينبثق الإيمان عن غريزة طبيعية، بل إنه فعل ثقافي بامتياز. والدليل على ذلك، تغير المعتقدات ونسبية المقدسات حسب اختلاف الشعوب وتعاقب الأزمنة.
يتسم الإيمان بأولوية الفاعل. فلا يوجد إيمان بدون مؤمن. فالغربيون اللذين اعتنقوا الإسلام يُعَدون بعشرات الآلاف وكلهم كانوا مسيحيين أو ملحدين من قبل. لكن الخاصية الأولى للإيمان، هي “قلب هذا التراتب”، حيث تصبح المُعتقَدَات هي الأولى زمنياً والمؤمِن هو التالي. أي أن هذا الأخير يفقد استقلاله وحريته و “أولَوِيته”، لينصهر في المنظومة العقائدية التي يؤمن بها. تلك المنظومة التي تمنحه معنى للحياة وآفاقا أزلية ومكانة محددة في الكون. فارتباطه بالمنظومة العقائدية، يتسم بالعضوية والدُّنيوية.
إقرأ أيضا: من اليمن، وسام باسندوه تكتب: إرهابيون وسطيون معتدلون
نعني بذلك، أن كَينونته تصبح منبثقة وتابعة للكائنات العليا والمؤسِّسة لسماء دينه. وبالتالي فهو يعتبر المس بمقدساته، عدوانا صريحا على ذاته الدفينة.
هناك أيضاً خاصية أخرى للإيمان، قد تفسر التعصب المفرط للمؤمنين.
نقصد هنا… الطابع غير المعرفي للعقيدة. فالحقيقة الإيمانية “ذاتية التبرير”. ففي حين تخضع الحقيقة العقلانية إلى مناهج دقيقة، تتمازج فيها التجارب الحسية والترابطات المنطقية، لا تحتاج الحقيقة المُعتقَدة إلَّا إلى “قفزة وجدانية”، من طرف الذات المُؤمنة، للانصهار في المنظومة الدينية. وهنا تتبين ضرورة عملية التقديس عند “مهندسي الدين”، أي ضرورة إبعاد المعتقدات عن المساءلة. ذلك أن النظرة العقلانية تفرض المسافة بين السائل و”موضع بحثه”. والمسافة تُبطل الانصهار وتُعيق القفزة الوجدانية.
… ملخص القول إن:
الخدش في المقدس يُعتبر تهديدا للبنية العقائدية برمتها، وذلك بضربه لكَينونة المُؤمن وتشكيكه في الحقائق الذاتية والمُؤسِّسة للإيمان.
إن معالجة مُعضلة العنف عند المسلمين، تستوجب التصدي لأبعادِه الثلاثة المذكورة أعلاه.
ولا يمكن احتواء التعصب الناتج عن البعد الوجداني للدين وإقصاء الفئات الفاشية من المجتمع، إلا بتبني نظام علماني صريح، يحصر الشأن الديني في العلاقة العمودية بين المؤمن ومعتقداته.
… أما تأثير البعد التشريعي للنصوص المقدسة، فيتطلب إرادة سياسية واضحة، للعناية بالأعمال الأكاديمية التي تعيد قراءة الموروث الديني، بُغية إعادة صياغته، لكي ينسجم مع القيم المعاصرة