فيلم آخر أيام المدينة: الحداد كلحظة ضرورية للولادة.
كتيرة هي الأفلام التي تطرقت وحاولت التعبير عن الحزن والكآبة التي تصيب الأشخاص والأماكن التي تكتنفها الأحزان والإحباطات، لكن القليل منها ربما أفلحت في ذلك، دون السقوط في نمطية البؤس …
كتيرة هي الأفلام التي تطرقت وحاولت التعبير عن الحزن والكآبة التي تصيب الأشخاص والأماكن التي تكتنفها الأحزان والإحباطات، لكن القليل منها ربما أفلحت في ذلك، دون السقوط في نمطية البؤس أو التشاؤم. وربما في هذا بالضبط، نجح المخرج، “تامر السعيد” في فيلمه “آخر أيّام المدينة”؛ هذا الشريط الروائي أو التسجيلي الذي يأبى كل تصنيف، والذي تطلب من طاقمه عشرة أعوام من العمل.
نال هدا الفيلم جوائز كثيرة في مهرجانات دولية، وعرض في العديد من الدول الغربية وكذلك بعض الدول العربية، لكن … لم يكتب له بعد العرض في موطنه الأصلي… مصر.
بدأ تصوير الفيلم قبل ثورة 25 يناير. الظروف والأجواء التي سادت في وقت تصويره وإعداده، تلمح بأن هناك تحولا كبيرا على وشك الحصول، ليؤثر في الساحة السياسية والاجتماعية، فيما سمي من بعد بالربيع العربي الذي شكل نقطة تحول مهمة بمصر وكذلك في المنطقة ككل.
كل هذه المعطيات تجعل منه فيلما استثنائيا، ونقطة تحول في سينما الكتاب في المنطقة العربية. ليس لأنه تطرق لمواضيع حساسة في السياسة أو الدين وعدة مواضيع مهمة، ولكن لطريقة تصويره، وكيفية التعامل مع الواقع بأسلوب جديد ولغة جديدة تواكب متغيرات المجتمع، أو بالأ حرى تنجح في ترجمة الواقع بدون خيانة للمشاعر التي تنمو بأنفسنا والتي تتفاعل باستمرار مع محيطها.
آخر أيام المدينة، فيلم استتنائي ونقطة تحول في سينما الكتاب في المنطقة العربية. ليس لأنه تطرق لمواضيع حساسة في السياسة أو الدين وعدة مواضيع مهمة، ولكن لطريقة تصويره، وكيفية التعامل مع الواقع بأسلوب جديد ولغة جديدة تواكب متغيرات المجتمع، أو بالأ حرى تنجح في ترجمة الواقع بدون خيانة للمشاعر التي تنمو بأنفسنا والتي تتفاعل باستمرار مع محيطها.
تامر السعيد يجسد لنا من خلال هذا العمل السينمائي، الذي يسرد لنا واقع الشباب المعاصر من خلال جماعة أصدقاء (أربعة شباب وهم خالد المصري القاطن بالقاهرة وباسم «باسم فيّاض» من بيروت، و«حسن» «حيدر الحلو» من بغداد، وطارق «باسم حجر» من بغداد، الذي يعيش فى برلين كلاجئ) جمعتهم الصداقة وحب تصوير الأفلام عن مدنهم، محاولين، كل واحد منهم، التعبير والتقاط اللحظات والمشاعر والأحاسيس التي يصعب التقاطها وترجمتها من خلال عدساتهم التي تتربص بالمواقف التي لا تكرر وتنفلت دون إدراكها.
إقرأ أيضا: عن الغزالي وابن رشد: مشاهد من جريمة اغتيال
في هذا الخضم، نتابع الأحداث داخل العواصم والمدن التي تجسدها الحكاية: القاهرة، الاسكندرية، بيروت، ثم بغداد.
بيروت ترفض واقعها فتبدو كشيء بشع، ناجية مما عاشته من حروب أهلية ودمار… بغداد أضحت صرحا لعبث الأقدار والموت الذي يتربص بكل كائن حي. الموت الذي صار شيئا مألوفا أو بالأحرى، الخبز اليومي لأهلها… أما الاسكندرية الجميلة، فقد طال الخراب والهدم ذاكرتها. في حين تظل القاهرة مسكونة بصخبها وضجيجها وصعوبة العيش فيها… تقهر من لا يستسلم لها .
من خلال وحدة المصير التي تتلاقي في هذا الخضم، والذي سادت فيه لغة الاضطهاد السياسي بأسلوب القمع والتضييق على الحريات، والعنف والتطرّف الديني والتعصب الوطني، داخل جو يسوده خطاب الترهيب والتخويف، صار الفضاء الخارجي للمدن محاصرا بمصفحات أجهزة الأمن. أغلقت الشوارع وفرشت أرصفتها من أجل صلاة الجمعة… فضاق المكان بكل مواطن يتوق الى أي مكان يستطيع به التجوال بكل حرية…
بدأ تصوير الفيلم قبل ثورة 25 يناير. الظروف والأجواء التي سادت في وقت تصويره وإعداده، تلمح بأن هناك تحولا كبيرا على وشك الحصول، ليؤثر في الساحة السياسية والاجتماعية، فيما سمي من بعد بالربيع العربي الذي شكل نقطة تحول مهمة بمصر وكذلك في المنطقة ككل.
وكما جاء على لسان حبيبة خالد في سؤال لها عن رغبتها، فإن أقصى أمنياتها، أن تسافر الى الخارج… إلى مكان يسمح لها أن تعبر فيه عن حميميتها لحبيبها دون رقيب… دون حاجة للتخفي عن أنظار الآخرين.
تامر السعيد يحاول الإمساك بكل هذه الخيوط التي تتقاطع فيما بينها، بتقنية عالية، ليجمع هذا الشتات الهائل في عدسة الكاميرا، دون أن يترك للحظة الساحرة أن تنفلت منه، ودون إضاعة الفرصة للبوح بما يختلج ذواتنا. بعيدا عن هذا الزخم وضجيج المدن، تتخلل الفيلم لحظات صمت ساحرة… يصمت الراديو والخطابات والموسيقى للحظة، لكي يزول الحجاب عن الاحباط le désenchantement كما تعبر عنه الكلمة الفرنسية التي في معناها الأصلي، تحيل على التوقف عن الغناء، كي يسدل الحزن ضلاله علي المدينة …
الحزن… هو تيمة هذا الفيلم، ولكنه حزن بلون آخر، وبشاعرية جميلة لا تحاول تجميل الواقع، وترفض تزييفه لتجعل من حلكته مكانا يسلط عليه ضوء الكاميرا الذي يدعونا إلى عدم الاستسلام لدوامته، التي قد تؤدي بأفرادها إلى الكآبة أو السوداوية La mélancolie.
إقرأ أيضا: أفلام عادل إمام التي أغضبت الإخوان
في محاولتنا لسبر خبايا هدا الفيلم، كان من لابد من قراءته على خطى التحليل النفسي لكي يتيسر لنا فك بعض رموزه.
فرويد، وفي مقالة له le deuil et la mélancolie، قام بمقاربة الحزن في وقت الحداد من أجل تفسير السوداوية أو الكآبة، أي الميلونكوليا كمرض نفسي ذا عواقب جسيمة. ثنائية الحزن والحداد، هي ظاهرة طبيعية تتميز بالشعور بألم ومعاناة نتيجة فقدان شيء ما أو شخص عزيز لسبب أو لآخر. هي حالة الشعور بالضياع المؤلم، أما الحالة الثانية من الحزن أي الملونكوليا، فهي حالة مرضية تتميز بالحزن العميق والانعزال عن العالم الخارجي، يصبح فيها المريض غير راغب في الحياة، وبالخصوص، الإقبال على اللوم الشديد والتحقير الذاتي، مما قد يؤدي إلى الانتحار…
نال هذا الفيلم جوائز كثيرة في مهرجانات دولية، وعرض في العديد من الدول الغربية وكذلك بعض الدول العربية، لكن … لم يكتب له بعد العرض في موطنه الأصلي… مصر.
في هذا الفيلم، نتابع كيف ينجو خالد من السقوط في هذه الهاوية المرضية، بعد تراكمات مآسي عديدة ووفاة أخته في حادثة سير. نفهم من خلال بوح أمه عن هذا الحادث، أنه كاد أن يفرقها عن زوجها، لولا متانة علاقتهما، وذلك رغم استمرارها في معاتبته، وكأنه المسؤول عن الحادث الذي أدى بحياة ابنتهما. الجرح الأليم ظل مفتوحا… نرى خالد منهمكا في البحث عن ذكرى والده في عمله، ولكنه يفاجأ بأن… لا أحد يذكره، لتتفاقم آلام خالد حين تتركه حبيبته، حيت تختار الهجرة إلى الخارج… إضافة إلى فشله في إيجاد مسكّن له.
لكن الحادث الذي كاد أن يعصف بحياته، يبقى في النهاية هو موت صديقه العراقي ببغداد أثناء تفجير إرهابي. ففي لحظة يخيل فيها للمشاهد أن خالد سيقدم على الإنتحار [un passage à l’acte] بفتحه لنافدة صالون شقته لينتصب واقفا كأنه في حالة تردد أو تحدٍّ لعبثية الموت… ينتهي به الأمر إلى الجلوس على حافة النافذة، في نظرة شاردة لأفق المدينة الملتهبة بأضوائها…
هذه اللحظة، يمكن أن نقول إنها لحظة استبصار Insight… حيت يدرك الفرد ماهيته في هذا الوجود. إدراك ينجيه من السقوط في السوداوية، وبالتالي رضاه بضرورة الحداد الذي لابد له من وقت كي ينهي عمله، كي تتحرر كل هذه الطاقة… وكي يتم طي صفحة من أجل توظيفها في أشياء هدفها السمو بالفرد أمام هذا الظلام الدامس الذي يهدده.
إقرأ أيضا: ساكا في بلاد الذكورية السويدية
…فِي اللحظات الأخيرة للفيلم، نتابع خالد وهو في غرفة المستشفى الذي ترقد فيه أمه، وفِي حركة مفعمة بالأمل، نراه يضع قطع سكر في مزهرية الورود…
حركة غنية بالأمل وكأنه يقول لنفسه إن ما يجري من حوله يشبه حكاية هذه الزهور… ماتت حينما قطفت، وتم تمديد حياتها، ولو لأيام معدودة… حتى يتسنى للفرد البدء بمباشرة الحداد الذي يجب أن تكون له بداية ونهاية، كي تستمر الحياة.
السلام
أسلوب راقي جدا لدرجة انك شرفتنا في الفلم
تقبل مروري.أستاذي الفاضل