حزن الظن: اختراع عجلة الحرية وبعدها… فرملة الطابو(1)حديث الحرية
التقاط خمسة حروف من الابجدية العربية وبنفس الترتيب: ألف، نون، تاء، حاء، راء، ليس فقط لعبة لغوية. إذ يمكن وضع الصلة بين الحروف الخمسة ضمن منظومة نفسية ما. من المفروض …
التقاط خمسة حروف من الابجدية العربية وبنفس الترتيب: ألف، نون، تاء، حاء، راء، ليس فقط لعبة لغوية. إذ يمكن وضع الصلة بين الحروف الخمسة ضمن منظومة نفسية ما.
من المفروض أن ليس بين الحروف وقارئها متعة كمتعة الحديث حول الحرية. فقراءة نص قضيته الحرية يفتح شهية القراءة إلى حد الشبقية بين الحواس والنص. لذة النص. ها نحن على عتبة رولان بارث.
حتى لو عرّفنا الحرية بالسلب، أي كما صاغها أدونيس على دقات القلب تحت الحصار في حالة بيروت 82، “قل لنا يا لهب الحاضر، ماذا سنقول؟… ما أمرَّ اللغة الآن وما أضيق باب الأبجدية. لم يعد في السماء غير بعض الثقوب التي سميت أنجما…”؛ سنجد أنفسنا ساعتها مشحونين بطاقة الانفلات من جبروت الحصار (نقيض الحرية) وكل واحد منا سيصرخ: “أسرجوا هذه الرياح الجامحة”. “أحتضن العصرَ الذي يأتي وأمشي جامحا…. لن تروا خوفا ولا قيدا…”
في الذات العربية، التي بمجرد ما يتعلق الأمر بأوكسجين حياة كل فرد، من بين سبعة ملايير إنسان في الكرة الأرضية، وبمجرد الحديث عن الحرية ، تسَّاقطُ الأسئلة للتَّوِّ كهبوب رياح السَّمُوم الحارة الجافة المحملة بأتربة التعاسة. كان هكذا الجو حالكا طيلة الحرب الباردة. الهزائم الخارجية وولائم القمع الداخلية؛ وجدل الانتفاض والانقضاض في متواليات لا تنتهي.
بعد قرون، بزغت أفكار الملاءمة بين المقام الطبيعي والمقام الفلسفي لفائدة الحرية. لكن ذلك لم يمنع انفصامية فولتير الداعي للحرية، وصاحب الأسهم في شركات تجارة العبيد. كما لم تمنع حالة الانفصام لدى “ج. ج. روسو” الذي خط كتاب “إيميل” حول التربية بينما بقي كئيبا لعدم قدرته رعاية أطفاله هو بالذات.
تكاد أرضية الحرية في المنطقة العربية تمتلئ ألغاما وسموما. أي الموت بالتشظي أو الموت بالتعفن. الموت الحارق أو الموت البارد. أو لنقل، تمتلئ الأرض ألغاما بينما يطبق الهواء المسموم في فضاء نفس الأرض. فالخطو خطر والتنفس خطر.
الحرية إذن مادة حيوية، لكنها صعبة المنال. هذا التناقض في حد ذاته، إما محفز على الطموح، وإما محبط للإرادة، وبالتالي… فهو قاتل.
قال طوماس بّين (Thomas Paine)، ملهم الثورة الامريكية في كتيبه، “الحس العام” أو “الاتجاه المشترك”(le sens commun)، ما معناه: عندما تتجه المجموعة البشرية نحو توفير الخير، تصنع مؤسسة المجتمع؛ وعندما تتجه المجموعة البشرية للحد من ضرر ما، تتجه لصنع مؤسسة الدولة.
إقرأ للكاتب: حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
لا شك أن الانتفاع بالحرية يقتضي توفير الامتداد الحركي، وفي نفس الوقت تحديد المساحة المتاحة لهذا الامتداد حتى لا يصبح ضد حق الغير في الامتداد الحركي. لقد راكم البشر تجربة الامتداد بل التمدد الحركي العفوي وفق الحاجة، حتى بلغ الحد الذي أصبح تمدده الحركي العفوي يعيق حق الغير في التمدد الحركي العفوي، فكان الصدام والعنف بين مجموعتين، فأصبح بالتالي ضرر الصدام والعنف أكبر من نفع التمدد الحركي العفوي. بالتالي، قادت حالة النزيف والخسران الناتج عن الصدام والعنف إلى التأمل في عفوية التمدد الحركي كآلية أولى، سبّبت العنف والصدام كمتوالية ثانية، ومن ثم النزيف والخسران والضرر المزمن، كتركيب ما بين الأطروحة والنقيض.
ولأن التعقل الذاتي لم يصبح كافيا لاختيار لحظة التوقف عن التمدد الحركي، كونه ناتجاً عن مصالح حيوية فوق نفس المساحة، اقتضت الضرورة البحث عن حَكَمٍ يقترح خط التوقف من جانب الطرفين المتصادمين في لحظة معينة. أي لحظة وقف نزيف الخسران، أي تحديد لحظة/نقطة الصفر بين منفعة التمدد الحركي وضرر التصادم. كما لو توالى اختراع العجلة وبعدها آلية الفرملة في تاريخ التكنولوجيا، على صعيد فينومينولوجيا الروح (نستسمحك مستر هيغل المحترم)… تكاد الحرية تمثل الأوكسجين، والتضحية من أجلها تلخص عمل الجهاز التنفسي. “ويا سلام سلِّمْ “.
فالحرية الأصل، هي دينامية ما تتيحه ساحة المجتمع من تمدد حركي لتملّك القوت والراحة والعواطف الايجابية، هي إذن حرية عفوية فطرية تساعد على الرفاه المادي.
ولما ارتسمت خطوط الارتباط بين القبيلة والغنيمة، تدخلت العقيدة لفك الارتباطات الضارة بالاستقرار الاجتماعي والسياسي المطلوب توفيره، فنشأت الطابوهات
بينما… الحرية التي تقف عند ما يراه الحَكَمُ/الدولة خطا حيويّا لا يمكن تجاوزه، حتى لا نصل لحظة التصادم، هي حرية تعاقدية المبتدأ والمنتهى. بداية الحرية مجتمعية، ونهاية مساحتها دولتية.
الحرية الأولى تلقائية ذاتية؛ والحرية الثانية محسوبة موضوعيا. تساعد على التعقُّل القانوني وما يتبعه من أزمة الضمير عند الاخلال بالتعاقد. عكس ذلك، الرضا عن النفس عند الوفاء بالالتزام وما ينتجه من رفاه روحي.
إقرأ أيضا: سعيد ناشيد يكتب: البطيخ واسم الجلالة
لكن رسم حدود الحرية بدأ بآليات وافقت رصيد العقل البشري (المعقول) ما بين المعلوم والمجهول، ما بين علوم الفيزيائيات و”علوم” الماورائيات. وما بين علوم الفيزيائيات و”علوم” الماورائيات صلة “عضوية” “منطقية”. فلما استعان الإنسان القديم بنجوم السماء لرسم طرق سفره في الأرض، فقد ظن أن فوقه مجتمعا سماويا مجهولا. حينها، نشأ علم الفلك للناسوت الأرضي. بالموازاة معه، نشأ الدين علما لمجتمع اللاهوت السماوي. ومن باب رد الجميل من طرف إنسان الأرض لتلك النجوم السماوية الحافظة لهندسة التنقل وجبر حساب المسافات، نشأت تجاهها مشاعر الاحترام والتقدير لأنها تستجيب بعودة الظهور. ولأن انتظام الليل والنهار كان أكبر من قدرة الإنسان على الفهم العلمي، فقد أضيفت ظاهرته سببا للتعظيم إلى درجة الإحساس بالضعف المزمن تجاهها وبالتالي الإقرار بحالة العبودية تجاهها، والحال أن العبودية تجاه السماء، ليست سوى تجسيد لقياس على عبودية الضعيف لفائدة القوي فوق الأرض بين البشر أنفسهم. أو بين البشر وبين الكواسر المفترسة من الحيوانات. فالضعف يولّد الخوف والخوف المزمن يولّد العبودية كأمر واقع واستسلام نهائي.
تكاد أرضية الحرية في المنطقة العربية تمتلئ ألغاما وسموما. أي الموت بالتشظي أو الموت بالتعفن. الموت الحارق أو الموت البارد. أو لنقل، تمتلئ الأرض ألغاما بينما يطبق الهواء المسموم في فضاء نفس الأرض. فالخطو خطر والتنفس خطر.
لقد نسينا وضعيتنا العينية الملموسة هذه، التي تكلست في نفسيتنا قرونا بعد قرون. حتى تكرست، وباسم الدين، نظاما اجتماعيا كمقدس مفروض لا كتطور تدريجي. ألم يكن النبي ابراهيم عليه السلام خليلا للخالق؟ ألم يكن عمّا للنبي لوط عليه السلام؟ هذا مما نتذكره بفضل نصوص الأديان. ألم يكن لزوجته سارة أخا من أبيها؟ ألم يسبق الفراعنة التوحيد الموسوي (ق 12 ق.م) وبالتالي، ما عرفوا في عصورهم خلال ألفي عام قبل ذلك زيجات المحارم، فكانت نيفرتيتي أختا لأخناتون وزوجا له في نفس الوقت. ولما ارتسمت خطوط الارتباط بين القبيلة والغنيمة، تدخلت العقيدة لفك الارتباطات الضارة بالاستقرار الاجتماعي والسياسي المطلوب توفيره، فنشأت الطابوهات بداية، لتعوضها الشرائع الإلهية قواعد لحفظ النظام الاجتماعي من الأخطار البيولوجية ومن الترسبات والشكوك النفسية ومن الضغائن الاجتماعية والتعديات الاقتصادية والظلمات السياسية. الكثير من هذا نتناساه أو نجهله أصلا، لأنه ضمن الثقافة الموسوعية المهمشة غير الواجبة.
نكاد نحتاج إلى إدموند هوسرل وهو يحلل فكرة الفينومينو(لوجيا)، لنفك الاشتباك ما بين لحظة الاختيار ولحظة الاضطرار، فنميز بين لحظة المقام الطبيعي (التصرف التلقائي وفق غريزة الحرية) ولحظة المقام الفلسفي (الوعي الذاتي بضرورة الفرملة).