أحمد المهداوي يكتب: كورونا… في زمن الرِّدة والجهل - Marayana - مرايانا
×
×

أحمد المهداوي يكتب: كورونا… في زمن الرِّدة والجهل

المجتمع (الإسلامي)… لم يقم بتحصين ذاته بالعلم لأجل تذليل الصعاب، وضمان وعي مجتمعي قادر على الوقوف كسدٍّ منيع أمام كل ما يمكن ترويجه من خطابات ذات بُعد أسطوري متخلّف، وخطب زاخرة بالأفكار البدائية وبالرؤى الرّجعية…
ما زال الخطاب الديني نفسه، يرفل في براثن العصور الوسطى، منكبًّا على إعادة إنتاج مجتمعٍ سلفي قائمٍ على مشابهة السّلف في كلِّ شيء، ممّا أغرق المجتمع الحالي في الحنين إلى الماضي، وإشاحة النظر عن المستقبل، وعدم تقبّل للحاضر الموبوء بالجهل، وانتشار التخلّف في كل مكان.

أحمد المهداوي: باحث في مجال الدراسات الإسلامية

في زمن كورونا…

تبيَّن أنَّه لم يعد من المُجدي الاتِّكاء على التّجهيل المقصود للشُّعوب.

توضَّح للعيان أنَّه لم يعد للفتاوى من دورٍ يذكر في الحياة اليومية (للمجتمعات الإسلامية).

بدا جليًّا أنَّه لم يعد لرجال الدِّين من جدوى في ظل الموت الرّهيب الذي يحاوط البشرية من كل جانب.

ظهر عجز الخطاب الدِّيني أمام العلم في زمن الوباء القادم من كلِّ صوبٍ وحدب.

لم يتبقّ للِّحى الطويلة ما تستر به عورتها، بعدما انكشفت أمام الاحتياج المتزايد لثورةٍ علمية في دول (العالم الإسلامي).

لم تنفع الشفاعات المتوسّلة بالموتى، ولا التّوسلات والتمسّح بالأضرحة، في وقتٍ اتجهت فيه أنظار العالم نحو التكنولوجيا المتطوّرة والمختبرات العلمية.

لم تصمد (الرقية الشرعية) عند هذا الإختبارٍ الحقيقي في مواجهة وباءٍ غير مسبوقٍ في (الذهنية الإسلامية).

لم يعد من المسموح في زمن كورونا التّطبيع مع الجهل بكلّ أنواعه…

كلّ ما سبق… مدعاةٌ إلى مراجعة الأوراق، والنّظر بعمقٍ في طبيعة الحياة التي تبرز أنّ لكلِّ نتيجةٍ سبب؛ وما نشهده اليوم من سطحية وغوغائية وعدم امتثال للتوجيهات الرامية إلى الحد من انتشار العدوى بفيروس كوفيد 19، في لا مبالاةٍ صارخة، ليس سوى نتيجةٍ حتمية لجهلٍ/تجهيل ترسّخ على مدار سنواتٍ خلت.

ففي الوقت الذي اتجهت فيه دول الغرب (المتقدم) إلى المستقبل، بصناعة ثورةٍ علمية شاملة، بغية الخروج من دوامة التقهقُر الحضاري في لحظة ما، ظلّت دول الشرق (المتخلف) قابعة في بِرك الجهل، متقوقعة على ذاتها (الإسلامية)، تناشد العودة إلى الماضي قصد اقتفاء أثر السّلف الدّارس منذ قرونٍ خلت.

ولا بأس هنا، قبل العودة إلى بادئ الموضوع، من التّعريج على لحظةٍ تعتبر (مفصليّة) في حياة الكيان الجمعي (الإسلامي)، ألا وهي: لحظة ما عُرف ب(النَّهضة).

ساهمت الأنظمة (العربية) في انتشار الجهل بكل أنواعه بين شعوبها، من خلال أدلجة الدين وتطويعه لخدمة النّظام السياسي… وها نحن اليوم نحصد ما قد تمت زراعته من قبل؛ حيث إن المجتمعات (المسلمة) المتخلّفة عن الركب الحضاري، لم تستطع التعامل مع الوباء المستجد (كورونا)، وفي انتظاريةٍ مقيتة… ترقب مصيرها بين يدي العالم الغربي (الكافر)، في غير مقدرةٍ على الانضباط للتعليمات والتوجيهات الوقائية حتّى.

فعلى الرّغم من كون (العالم الإسلامي)، على مختلف مكوّناته، دخل مرحلة ما سمي ب(النهضة)؛ والتي جاءت كرد فعل في إطار البحث عن حل للخروج من مأزق التخلف والانحطاط، غير أنّه لم يستطع تحقيق هذا الهدف؛ وذلك راجعٌ إلى كون (النهضة) في حد ذاتها، ليست سوى (ردّة) في جوهرها، كما عند طرابيشي؛ بمعنى آخر… فإنّ الشريحة المتخصّصة في إنتاج الوعي على حد تعبيره، تعاني من نكوصيّة مصحوبة بافتقار للنّضوج، وانسحاب من سيرورة التّقدم؛ على ضوء الإضراب المفتعل عن النّمو، والطموح للتطور، فيما اعتبرت هذه الشريحة متأثرة، في المقام الأول، بالجرح النّرجسي ذو الطبيعة الأنثروبولوجية، النّاجم بالأساس، عن السبق الحضاري المنقطع النظير الذي حقّقة الشطر الغربي، أو بمعنى آخر الانهزامية العربية التي هزّت الكيان الجمعي.

اقرأ أيضا: نداء مرايانا… أيها المغاربة، مصيركم بين أيديكم. هكذا ننتصر على فيروس كورونا

بهذا… لم تعدُ حركة (النهضة) أن تكون -بكلّ توجهاتها سواء ذات التوجه الإسلامي أو ذات الصبغة الوطنية- سوى نتاجا عن الصدمة الحضارية الحاصلة في اكتشاف الهوّة العميقة بين الشطرين الشرقي والغربي؛ مما ولّد إحساسا بالدونية القاتلة، بعد إدراك الفجوة والبون الشاسع؛ ما أنتج في المقابل خطاباً مأزوما ناتجا عن الصدمة، عكس النهضة الأوروبية، المُأسسة على الخاصية الذّاتية، المنطلقة من (الذات الغربية) في محاكاةٍ للعالم القديم (روما، اليونان).

ذلك ما أبرز عندئذ… شعورا بصعوبة إمكانية خلق نهضة، تجمع بين متطلّبات التوجه الإسلامي، الممثلة في العودة إلى القرآن والسنة كمصدر أساس لوحدة (العالم الإسلامي)، مع الدعوة إلى إعادة إحياء الموروث السّلفي، لأجل محاكاة مجتمعات الرّعيل الأول من الإسلام، وبين التِّيار الوطني الدَّاعي إلى إعطاء الأولوية للعلم، عبر إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا والتّشبت بالروح الوطنية، مع الإنفتاح على الحضارة الغربية للإستفادة من التفوق العلمي الحاصل، وقد شكّل هذا الشعور عائقا أمام ولادة نهضة حقيقية، ما جعلها توصف بأنها منتوج “إشكالي”، وأيضًا… “لم تكن -النهضة- في وجودها المتعين، إلا تمويهًا إيدلوجيًا برجوازيًا للتّبعية”.[1]

في المقابل… شكَّلت الثورة العلمية في الغرب، قفزة نوعية بدأت معها إرهاصات السّبق الحضاري، وتحقق خلالها التطور الصناعي والإقتصادي، وتغيّرت إبَّان ذلك، البُنى المجتمعية والرؤى الفكرية والسّياسية؛ مما ولّد وعياً جمعيا محصَّنا ضد الخرافات والأساطير البدائية، التي ما تزال تنخر في جسم المجتمع (الإسلامي) إلى حدود اليوم.

في الوقت الذي اتجهت فيه دول الغرب (المتقدم) إلى المستقبل، بصناعة ثورةٍ علمية شاملة، بغية الخروج من دوامة التقهقُر الحضاري في لحظة ما، ظلّت دول الشرق (المتخلف) قابعة في بِرك الجهل، متقوقعة على ذاتها (الإسلامية)، تناشد العودة إلى الماضي قصد اقتفاء أثر السّلف الدّارس منذ قرونٍ خلت.

هذا الأخير، لم يقم بتحصين ذاته بالعلم لأجل تذليل الصعاب، وضمان وعي مجتمعي قادر على الوقوف كسدٍّ منيع أمام كل ما يمكن ترويجه من خطابات ذات بُعد أسطوري متخلّف، وخطب زاخرة بالأفكار البدائية وبالرؤى الرّجعية؛ إذ ما يزال الخطاب الديني نفسه، يرفل في براثن العصور الوسطى، منكبًّا على إعادة إنتاج مجتمعٍ سلفي قائمٍ على مشابهة السّلف في كلِّ شيء، ممّا أغرق المجتمع الحالي في الحنين إلى الماضي، وإشاحة النظر عن المستقبل، وعدم تقبّل للحاضر الموبوء بالجهل، وانتشار التخلّف في كل مكان.

من جهة أخرى… ساهمت الأنظمة (العربية) في انتشار الجهل بكل أنواعه بين شعوبها، من خلال أدلجة الدين وتطويعه لخدمة النّظام السياسي، وتطويق الحركات التقدمية الحداثية، في مقابل توسيع هامش الحرية للمد الإسلامي الذي أدخل المجتمعات (الإسلامية) في نفق التعتيم والجهالة؛ ونتيجةً لذلك… ها نحن اليوم نحصد ما قد تمت زراعته من قبل؛ حيث إن المجتمعات (المسلمة) المتخلّفة عن الركب الحضاري، لم تستطع التعامل مع الوباء المستجد (كورونا)، وفي انتظاريةٍ مقيتة… ترقب مصيرها بين يدي العالم الغربي (الكافر)، في غير مقدرةٍ على الانضباط للتعليمات والتوجيهات الوقائية حتّى.

اقرأ أيضا: فيروس كورونا. ماذا تفعل إذا شككت أنك مصاب؟

كل ذلك… إنما هو دليل على ضعف المردود الأكاديمي لهذه المجتمعات في التقييمات الدوليَّة؛ إذ فشلت في صناعة المتعلِّم الفاعل، في زمنٍ لم تعد فيه الأساليب التقليديَّة مثمرة وذات جدوى، ولم يتم خلق جامعات ومدارس قادرة على تصدير ثقافة تنويريَّة، تضمَّن التنمية الكاملة لكل فرد لمواجهة المشاكل المستقبلية، ولم تقم على توعية الشعوب توعية شاملة، تضمن بها التصدي للفكر الاستسلامي لـ(القدر) في انتظار الموت في زمن الأوبئة… اعتقادا منها على أنَّ الأخيرة، قدر إلهي محتوم لا ينفع معه شئ سوى انتظار (الأجل المكتوب).

ختاماً ليس لي إلّا التّذكير بمقولة سقراط الخالدة:

التّعليم هو إضرام النّيران، وليس ملء الوعاء

 

 

 

(1) حركة التنوير العربية في القرن التاسع عشر، ص.8

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *