إبراهيم… مَن الذبيح مِن ابنيه، إسماعيل أم إسحاق؟ أكثر من مجرد اختلاف! 3/3
هذا الاختلاف، حسبما يؤكده المفكر المصري محمود عباس العقاد، في كتابه “إبراهيم أبو الأنبياء”، له جانب هام، يفوق في أهميته جانب البحث التاريخي الذي يراد به مجرد العلم باسم الذبيح من ابني إبراهيم: إسماعيل أم إسحاق.
بعدما تابعنا في الجزء الأول أهمية إبراهيم في الديانات السماوية، وكيف يوحد بينها، على الرغم من اختلاف الروايات التي يرد بها في نصوصها المقدسة، ثم في الجزء الثاني بعض تفاصيل الشك والتزيد اللذين يكتنفان حكاية إبراهيم، في هذا الجزء الثالث والأخير، نتابع أحد أهم الاختلافات التي تسم هذه الحكاية.
يتعلق الأمر بسؤال… مَن الذبيح بين ابنيه؟
… وكما سنرى، فهو اختلاف جوهري له تأثير بالغ الأهمية في مجرى التاريخ الديني.
تقول التوراة إن سارة، بعدما بلغت 76 عاما ولم تنجب، طلبت من إبراهيم، وكان عمره يومها 86 عاما، أن يدخل على جاريته المصرية هاجر. هكذا، حصل أخيرا على ابن سماه إسماعيل.
بعد ذلك بنحو 14 سنة، سيولَد لسارة ابن اسمه إسحاق… لكن ذلك سيولّد الغيرة في نفسها من هاجر ومن ابنها.
فقالت: ابن الأَمَة لا يرث مع ابني، ثم طلبت من إبراهيم أن يخرجهما عنها.
من يزعم أن الذبيح كان إسحاقا، قال إن موضع ذلك كان في بيت المقدس، ومن يزعم أنه إسماعيل يقول إن ذلك كان بمكة.
الذي حدث أن إبراهيم أخذ هاجر وإسماعيل، وسار بهما إلى الحجاز وتركهما بمكة، حيث تزوج إسماعيل امرأة من قبيلة جُرْهم.
لما ماتت هاجر، عاد إبراهيم إلى ابنه إسماعيل، وبنيا الكعبة، ثم… أُمر إبراهيم بأن يذبح ابنه!
وهنا اختلف الناس في الابن الذي أُمر إبراهيم بذبحه، هل هو إسحاق أم إسماعيل؟
من يزعم أن الذبيح كان إسحاقا، قال إن موضع ذلك كان في بيت المقدس، ومن يزعم أنه إسماعيل يقول إن ذلك كان بمكة.
اقرأ أيضا: الحنيفية: عن دين إبراهيم في “الجاهلية”! 3/1
المؤكد أن الله أو إيل في الأخير… قد فدى ابن إبراهيم بكبش.
هذا الاختلاف، حسبما يؤكده المفكر المصري محمود عباس العقاد، في كتابه “إبراهيم أبو الأنبياء”، له جانب هام، يفوق في أهميته جانب البحث التاريخي الذي يراد به مجرد العلم باسم الذبيح من ابني إبراهيم.
… إنه اختلاف يتعلق باختيار الشعب الموعود!
وحتى القرآن حين ذكر قصة الذبح هذه، لم يذكر الذبيح بالاسم.
“الظاهر من القرآن… أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: “وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين“.
الواقع أن هذه المشكلة، قبل أن تصادف فقهاء الإسلام، صادفت رجال الدين في المسيحية… كيف يُؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وهو ابنه الموعود الذي يخرج منه شعب الله المختار؟
ويبدو أن إحدى رسائل العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)[1]، قد وجدت حلا لهذه المشكلة: “إن إبراهيم بالإيمان قدم إسحاق وحيده الذي قيل له: إنه بإسحاق يدعى لك نسل؛ إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات”.
هنا يقع التناقض… كيف يكون إسحاق وحيد إبراهيم، وقد ولد بعد إسماعيل؟ فإسحاق لم يكن وحيدا مع وجود إسماعيل، بينما كان إسماعيل وحيدا… قبل مولد إسحاق.
اقرأ أيضا: من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
بالعودة للتراث الإسلامي، فابن كثير، مثلا، يرى في “البداية والنهاية”، أن “الظاهر من القرآن… أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: “وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين[2]“.
الذي حدث، يقول المفكر المصري سيد قمني في كتابه “النبي إبراهيم والتاريخ المجهول”، أن التوراة، حاولت بسذاجة أن تسحب البساط من تحت النسل الإسماعيلي، لتكون أرض كنعان خالصة لبني إسرائيل، أحفاد إسحاق.
كان تاريخا مقررا لا سبيل إلى إنكاره! لو كان للعرب أن يخترعوا، لما اخترعوا نسبا ينتمون به إلى جارية، فيما خُص غيرهم بالانتماء إلى سيدة مختارة.
من ثم، لم يورد كاتب التوراة أي إشارة لجزيرة العرب في هذا السياق… والأدهى من ذلك، أنه لم ير بأسا في تكرار أن إسحاق هو وحيد إبراهيم.
هكذا، ألغي إسماعيل من التاريخ العبراني…
وذلك لم يكن ليحدث سوى لأن دم إسماعيل ليس عبرانيا خالصا؛ لأن أمه كانت مصرية.
ولماذا لا يكون إسماعيل هو الذبيح؟ لأنه سيكون بذلك أضحية معابة الدم، يقول سيد قمني. وعليه، فالمذبوح لا بد أن يكون إسحاق… حتى ولو أنكر وجود إسماعيل تماما، وأصبح إسحاق بكر إبراهيم ووحيده!
الواقع أن مصادر اليهود عن حالة العرب الدينية سكتت كل السكوت، حتى تلك التي ترجع إلى القرن السابع قبل الميلاد.
اقرأ أيضا: الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية: أصل الحكاية
وللسكوت لسان أحيانا!
هذه المصادر، كما أسلفنا، تعمدت إخراج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وقالت: إن هذا الوعد، إنما هو حق لأبناء إبراهيم من سلالة إسحاق. ومن ثم، في أبناء يعقوب وأبناء داود.
انتساب العرب إلى إسماعيل إذن، يقول العقاد، كان تاريخا مقررا لا سبيل إلى إنكاره!
هكذا، يؤكد أن العرب، لو أرادوا أن يخترعوا، لما اخترعوا نسبا ينتمون به إلى جارية، فيما خُص غيرهم بالانتماء إلى سيدة مختارة.
ظلت هاجر تطارد العرب، فكانوا يسمون بالهاجريين، وأيضا بالإسماعيليين، نسبة إلى إسماعيل…
ومن ثم، فالانتساب إلى إبراهيم لم يكن مسألة اختراع… ولكنه مسألة تاريخ مقرر، يرى العقاد أنه… لا بد من إعادة البحث فيه.
في كتابه “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين“، يشير الباحث اللبناني حسام عيتاني، إلى أن المؤرخ أوسابيوس (أبو التاريخ الكنسي)، كان أول من اعتبر العرب شعبا من الشعوب التي تحدثت عنها التوراة.
أي أنهم أبناء إسماعيل؛ أو بالأحرى الأمّة التي حرمت من الوعد الإلهي.
اقرأ أيضا: كيف بدأ عرب الجزيرة يعبدون الأصنام قبل ظهور الإسلام؟ ولادة هبل 1\3
وقد ظلت هاجر تطارد العرب، فكانوا يسمون بالهاجريين، وأيضا بالإسماعيليين، نسبة إلى إسماعيل… لكن في مرحلة ما، منح ذلك للعرب هوية جديدة، إذ جعلهم على الأقل، ينظرون إلى أنفسهم من الشعوب التوراتية.
يقول عيتاني إن كثيرا من العرب دانوا بالمسيحية بعد ذلك، في محاولة للتخلص من السمعة التي وسمت بها التوراة العرب؛ أي التحدر من هاجر (الجارية).
أما أولئك الذين لم ينتقلوا إلى المسيحية، بحسب ما يراه المؤرخ البيزطي سوزومن، يورد عيتاني، فقد شكلوا الأرضية التي ظهر عليها الإسلام لاحقا، بل ولم يجدوا حرجا في التحدر من إسماعيل.
لكن… مع التشديد بأن نسبهم الحقيقي لا يتصل بإسماعيل وهاجر، إنما بإبراهيم!
[1] الإصحاح 11.
[2] سورة الصافات، الآية 112.
لقراءة الجزء الأول: إبراهيم… حكاية “نبيّ” يوحد الديانات الثلاث 3/1
لقراءة الجزء الثاني: إبراهيم… بين الميثولوجيا الدينية وعلم التاريخ 3/2
لاحظت ان المقالات الثلاث اهملت رحلة ابراهيم الطويلة بل والمستحيلة واعتمدت فقط على مرجعين هما ماكتبه العقاد وسيد ابقمني.بل هناك دراسات مهمة لمتخصصين تم اهمالها مثل دراسات خزعل الماجدي والدراسان والابحاث المهمة التي تجيب على كثير الاسءلة وتحل كثير من الغموض والمفارقات لصاحبها فاضل الربيعي.بدون الرجوع الى هذه الابحاث كانت المقالات ضعيفة.