نهاية وجود اليهود في الريف المغربي … 2/2الجزء الثاني
اكتشفنا في الجزء الأول من هذا الملف، كيف استطاع أن يتعايش اليهود، والريفيون، الذين اعتبرهم الأنثربولوجي الفرنسي، أوغست مولييراس، في كتابه “المغرب المجهول.. اكتشاف الريف”، الأكثر تعصبا في العالم… في …
اكتشفنا في الجزء الأول من هذا الملف، كيف استطاع أن يتعايش اليهود، والريفيون، الذين اعتبرهم الأنثربولوجي الفرنسي، أوغست مولييراس، في كتابه “المغرب المجهول.. اكتشاف الريف”، الأكثر تعصبا في العالم… في هذا الجزء، الثاني والأخير، نخوض في رأي يهود الريف في ما أحاط بهم من مظاهر الإسلام، كما نختم بقصة نهاية وجود اليهود في الريف.
هل كان اليهود في الريف يمقتون مظاهر الإسلام؟
تقوم فكرة كتاب “المغرب المجهول.. اكتشاف الريف[1]“، على درويش اسمه محمد، يزور قبائل الريف ويحكي ما يلاحظه فيها. في قبيلة مسطاصة، حدث أن كان موجودا بالصدفة بجانب بيت يهودي اسمه مشيشو، فتفاجأ بامرأة يهودية تفتح بابه وتصيح باتجاه زوجها: “يوجد يهودي بالباب وأعتقد أنه حاخام”.
الدرويش كان بخصلاته الطويلة يشبه حاخاما في الحقيقة. ثم أتى مشيشو إلى الباب، وقال للدرويش بلباقة: “الشلام عليكم يا أهل الإشلام”. لكن الأخير رد عليه: “السيلام عليكم”، بمعنى، فلتسقط عليك الحجارة؛ وقد نطق بذلك بسرعة ليتيقن أن اليهودي لن يفهمه.
النقاش استمر طويلا، ولم يرد ذكر تفاصيله في الكتاب، غير أن الدرويش استنتج أن اليهودي المغربي يمقت كل ما هو ليس بإسرائيلي، والعهدة هنا على الراوي!
استقبل مشيشو الحاخام المزعوم في بيته، فلاحظ الأخير أنه ليس بأنظف ولا أوسخ من مساكن المسلمين، لكنه مصبوغ من الداخل على نحو غريب، فحيطانه متنوعة الألوان، بين الوردي والقرمزي وألوان أخرى. ثم سيمضي الدرويش مع أسرة مشيشو بضعة أيام وسيجد حلولا لكل المواقف المحرجة التي ستواجهه خصوصا ما تعلق منها بممارسة الطقوس الدينية.
وليستقصي الحاخام المزعوم رأي يهود الريف في المسلمين ودينهم، سيشير إلى صومعة هناك فوق المسجد الكبير، يرفرف عليها علم أخضر، وسيتساءل: “ما شأن هذه الراية؟”.
اقرأ أيضا: “لننس “الدين الصحيح” ولنتحدث عن “حرية الاعتقاد””
مشيشيو سيجيبه بأنها تشير إلى يوم الجمعة وهو يوم حداد بالنسبة للمسلمين. وقد كان يكره التلفظ بكلمة “جمعة”، وفق ما لاحظه الدرويش، كما أن منظر العلم والمسجد يثير أعصابه، بخاصة أنه أدار وجهه وتمتم: “إن المسلمين يخالفون أوامر الله. فقد كان عليهم أن يرتاحوا يوم السبت كما أمر بذلك الرب الخالد، غير أنهم اختاروا الجمعة كي لا يشتغلوا…”.
النقاش استمر طويلا، ولم يرد ذكر تفاصيله في الكتاب، غير أن الدرويش استنتج أن اليهودي المغربي يمقت كل ما هو ليس بإسرائيلي، والعهدة هنا على الراوي!
باتوا… ولم يصبحوا!
كل هذه الحكاية، حدثت في القرن التاسع عشر. في عهد المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي، نجده قد أبعد اليهود عن سواحل الريف ببضع كيلومترات حتى “يأمن جانبهم”، فأسكنهم في قريتي إمداوشن والجنانات، وفق ما يورده الصحفي ادريس اعفارة، في مقال له منشور بعنوان “من وحي قارب بني بوفراح”.
“حزم اليهود أمتعتهم ورحلوا بحرا إلى سبتة أو تطوان أو طنجة، ومن هناك تفرقوا، بعضهم ذهب إلى إسبانيا، وأمريكا الجنوبية؛ ويقال -وقد يكون صحيحا- إنهم هاجروا بقضهم وقضيضهم إلى إسرائيل”.
بعد انتهاء المقاومة الريفية، رخص الإسبان لليهود بالعودة إلى طريس (ضاحية الحسيمة)، وكان ذلك سنة 1942؛ فاندمجوا مع بعضهم البعض، وتحسنت أحوال اليهود وتخلوا عن الحديث بالعربية والريفية، وأصبحوا يتحدثون بالإسبانية، كما لبسوا الأزياء الأوروبية حتى صار من الصعب بمكان التمييز بين اليهودي الريفي وبين الأوروبي.
اقرأ أيضا: “هذا أخطر أنواع اللاتسامح وأكثرها شيوعا في المجتمعات… وهكذا يمكن مواجهته! 3/1”
يذكر الصحفي ادريس اعفارة في المقال الذي تناول فيه يهود بني بوفراح (قبيلة ريفية)، أنه “في إحدى ليالي 1958، وقبيل نشوب انتفاضة الريف التي ووجهت من طرف المخزن بالحديد والنار، بات يهود بني بوفراح ولم يصبحوا، وكأن هاتفا هاتفهم محذرا من غضبة المخزن”.
وفق اعفارة، فإن “اليهود حزموا أمتعتهم ورحلوا بحرا إلى سبتة أو تطوان أو طنجة، ومن هناك تفرقوا، بعضهم ذهب إلى إسبانيا، وأمريكا الجنوبية؛ ويقال -وقد يكون صحيحا- إنهم هاجروا بقضهم وقضيضهم إلى إسرائيل”.
إجمالا، بعد قيام “إسرائيل” سنة 1948 واستقلال بلدان المغرب الكبير، هاجرت مجموعات يهودية متكاملة. معظم اليهود اتجه إلى اسرائيل، فيما استقر البعض الآخر بفرنسا واسبانيا وكندا، أو في أماكن أخرى. مع ذوبان هذه المجتمعات التي عمرت ألفي سنة في المغرب، اختفى أسلوب كامل لبنيات قديمة وتقاليد لغوية وثقافية غنية وأصيلة، حسب ما يورده المؤرخ المغربي حاييم الزعفراني في كتاب “ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب”.
اقرأ أيضا: “الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية: أصل الحكاية 3/2”
هكذا، انتهت حكاية وجود يهودي راسخ بالريف؛ فباتوا في أحد الأيام، وحدث أنهم لم يصبحوا، إلا مما ظل اليوم شاهدا عليهم، كبعض الحرف التي نقلوها إلى الريفيين، أو بعض الأمثلة التي نسجت عنهم: “بحال اليهودي، ما يفلح ما يبني”، “فلان لبس شاشية اليهودي”، “بحال اللي كايعسر اليهودي يسلم”، “اعمل الخير فاليهود، يحفظك الله من العدا والحسود”…
1 كما ورد في الجزء الأول، الكتاب لأوغست مولييراس، وهو أنثرولوجي فرنسي، صدر سنة 1895، ويعد من أوائل المؤلفات التي تطرقت إلى جوانب من حياة الريفيين في القرن التاسع عشر، بحيث نقل عددا من عادات القبائل وطبائع سكانها، إضافة إلى عددها ومكامن الاختلاف بين كل قبيلة وأخرى .
لقراءة الجزء الأول: يهود الريف… حكاية وجود راسخ انتهت بـ”باتوا ولم يصبحوا!” 2/1