أحمدالخمسي. حزن الظن: كيد شهرزاد
لماذا يحس الإنسان بتناقض حاد ما بين العياء الممل والرغبة في التخلص من جراح أدْمَتِ النّفْسَ وأنهكتها طول العمر، مقابل اشتعال ملتهب طازج في الكتابة عن نفس الجراح المنهكة؟ لقد …
لماذا يحس الإنسان بتناقض حاد ما بين العياء الممل والرغبة في التخلص من جراح أدْمَتِ النّفْسَ وأنهكتها طول العمر، مقابل اشتعال ملتهب طازج في الكتابة عن نفس الجراح المنهكة؟ لقد غنى أحمد الغرباوي ذات يوم “إنها ملهمتي” الخالدة، ويكفي سيدي سليمان والغرب كله هذا التجلي.
أية فواصل تنهي لحظة الخيال عن لحظة المعيش عن لذة الكتابة عن بؤرة السعادة (أو البؤس لا فرق)؟
عندما كان يتأمل عينيها وهي تمعن – عبر ابتسامة ممتدة ماكرة- فيه النظر المتسائل المتحدي الموغل، كان يرى نفسه هناك حيث يُطوى الزمن تماما وتنتهي خرافات الفئات العمرية. في تلك اللحظة/الابتسامة يمُحْىَ التمنِّي الذائع الصيت “ليت الشباب يعود” وهْيَ تجلّي العجز عن الإحساس بالتفوق المسطح الرائج في مجتمع التغني بالفروق الوهمية. كانت المحاورة جدالا في الماورئيات، وبمجرد ما تطبع ابتسامتها بالموافقة على رهان باسكال كاحتمال، كانت تتساوى لحظتها كل قمم الجدل الصاعد مع سفوح الانصياع الهابط للقرائن المضادة.
بعد أربعة عشر قرنا من نفسية المقدس، يستطيع اللاوعي في الفصيح المكتوب المحنط، هزم وعي المنطق في الكلام المنطوق الحي. لذلك، كثيرا ما يهزم موت الذاكرة حياة الادراك في مجتمعنا المحافظ .
ذات يوم، وتطوان تتميز بتوسط مركزها بين الأحياء الملتصقة في جبل درسة وأحيائها الممتدة على وادي نهر المحنش، كان رفقة أستاذ العربية الراحل محمد بويعلا (أستاذ خديجة الرياضي بالبيضاء). قرر الأستاذ أن يذهب، فدعاه لتمديد الرفقة برهة زمنية أخرى وقد غربت الشمس، فابتسم الأستاذ واعتذر عن ذلك مخاطبا ساخرا متفكها: je suis un habitant de M’hannech.
كان تعبيره بالفرنسية ينطوي على رغبة في تفسير الجسور التي بنيت بين لغات البحر الأبيض المتوسط. وأراد أن يكشف العلاقة بين كلمة الهبوط في العربية وبين كلمة habitant الفرنسية، خصوصا والساكن ينزل منزلا في الحديث العربي أيضا وهو مرادف للهبوط. فالتضاريس المتوسطية سواء على تخوم بلاد العروبة أو تخوم أوربا، نحتت كلمات التعبير متقاربة المبنى والمعنى عبر أساطير مشتركة. أساطير جعلت من قدموس الكنعاني أخا للأميرة أوربا تنقلا معا بسبب التجارة والحروب… والهجرة كانت أبد الدهر توأما للاستقرار تسبقه تارة وتارة تلحقه.
إقرأ لنفس الكاتب: حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
عندما تذكر الأستاذ، تذكر أن يشغلها بتوهماته حول أثر أجدادهما الذين عبروا الأبيض المتوسط، ليصيغوا لحفدة الرومان نهضتهم. ذكّرها بالادريسي الذي نظم الدماغ الجغرافي لملك النورمان في صقلية جنوبا، وأشار إليها نحو شاطئ وادي لاو، حيث مر من هناك الحسن بن الوزان في وصف افريقيا، وأكَّدَ لها أن البابا احتاج لمعارفه كي نتبسط رؤاه حول الهراطقة في شمال افريقيا. وأخيرا، كل الذين أعجبوا بلغة شكسبير اليوم، ينسون أن عطيل البطل في شمال ايطاليا والذي أغرى إحدى الجميلات هناك، لم يكن غير قائد عسكري من السعديين الذين تمسحوا بعدما حاربوا في صفوف سيباستيان الأول أواخر القرن 16. ففي الجندية وفي الميتافيزيقا وفي الجغرافيا تعلم الطليان الكثير من المغاربة.
مثلها كانت مثل الأميرة أوربا تنصت وهو يحكي مثل قدموس. تتخيلها وتحتاج أنت أن تنقش بقايا جدالها معك، فتتأكد أنها مثل {اللغة- المُعَبّـَرُ بها ليست أكثر ولا أقل من كونها- “مادة زئبقية”} (دو سوسير) تعجز عن رسم – أحرى نقش- دقة أحاسيسك رفقتها وزئبقية ردودها عليك.
تلك تخوم “ما بعد الحداثة”، أو عقل “ما بعد الاستعمار والذكورة”، أو تواطؤ الجميلة غياتاري سبيفاك، مع الراحل ادوارد سعيد، لفتح آفاق مرايا جديدة حيث المستقبل بمثل العذوبة الأولى ما قبل القوالب والصور النمطية المقلوبة.
تعتقد أن لك جرأة تطوق أو تحد بها شطآن قاراتها بقرار منك أنت، إذا بك تنزلق داخل قارورتها وهي تنغلق دونك برفق وكأنك فأر تجربتها هيَ. لحظتها تقرر هي أن تختفي. توهمك أنك أخذت منها كل شيء. وهي تغادر، تجد نفسك لم تحصل منها على شيء.
كن مؤمنا… كن ملحدا؟ ليس لوجوديتها منتهى أمواج. وجدانك يغرورق ندى، تبكي روحك وأنت تغني مرحا وفرحا. وإشراق حضورها يتركك أمام كهوف مضيئة لو صح التخيل. متى كانت الكهوف مضيئة؟ معها فقط تشعر أنك داخل كهف موحش تنهشك أسئلته/التياعاته. لكن اطمئنانها يجعل الظلمة ضوءً.
إقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
تمسك يدَك وتجرُّك بأحاديثها نحو مقرف الأوضاع، لتتوهَّمَ أنت أن وعيك المُدّخَر عسلا أو ترياقا سينفعها، جاهز ليبرئ ما تعرضه عليك من أسقام، فتكشف أنك مهزوم على حلبة مودة دسمة، تستعرض بحشمة متناهية افتراضات قابلة للمحو حد الصفر، بمجرد رد تضيفه هي… ولو كلمة.
من فرط أنوثتها، تطفو أنانيتك في شخص الفارس المغوار، يتضخم فيك الأنا وأنك العظيم شهريار، إذا بك وقد انهزمْتَ وافتُضِحَ صباحُك من فرط حنكة وحبكة الحكي على لسان شهرزاد.
تكاد تكسِّرُ عندك كل جمادات المعنى. فتُجَنُّ من بعد المجادلات، لتتساءل مَنِ الأنثى ومَنِ الذكر: شهرزاد أم شهريار؟ ذكوريتك المشرقية التي أوحت لك بهذا التساؤل الطاعن في البؤس البيولوجي، كثيرا ما يجد نفسه مندهشا وقد انهزم جيش مملكة الإدراك اللغوي عندك. نعم، أمام خداع حصان طروادة وقد أرسلته جمهورية الذاكرة المحكية عندها.
فالكائن الحي يسعى دوما أن يقبض على أسد اللغة ليشعرها شعور كلب وقد أُمْسِكَ به داجناً بسلسلة في عنقه. لذا، لم نعد نحتاج قاعدة لغوية لفرز أنوثة شهرزاد عن ذكورة شهريار. من تجرأ ليسأل نفسه لو سمح تاريخ الحكاية لنأنس من شهريار أنثى ومن شهرزاد الذكر؟
أحدهم خاض مغامرة “ترجمة” القرآن إلى دارج الكلام، ليسهل عليه تجريد المكتوب المحصن في مخيال القارئ من شحنة قداسة الكتاب الفصيح في الذاكرة المسلمة عبر الدارج “المكتوب” المستجد.
هبْ نفسك تحكي لأجنبي لم ينغمس بعد في إدام العربية وآدابها المشرقية ولو ليلة من ألف ليلة وليلة، ألن يتعود، من اللحظة الأولى، على نقيض مألوف الجنسين في الإسمين؟
هبْ أجنبيا اطلع على الحكاية برمتها، واستشعر في نفسه الرغبة العارمة لتقديم ما غنمه من حكايا الشرق ليلة لذيذة رفقة عشيقته، وقد اختلط عليه دور شهرزاد وشهريار، ألن يسهل عليه قلب أدوار الإسمين؟ ليحكي دور شهرزاد محل دور شهريار؟
تكادُ تميَّزُ مِنَ الغَيْض وقد تَجَسَّدَ لديك الفارقُ بين المنطوق والمدوّن. أحدهم خاض مغامرة “ترجمة” القرآن إلى دارج الكلام، ليسهل عليه تجريد المكتوب المحصن في مخيال القارئ من شحنة قداسة الكتاب الفصيح في الذاكرة المسلمة عبر الدارج “المكتوب” المستجد. لكن التفاعل الذي لا يتوقف يفرز قهر الدين التاريخي للمغامرة التبسيطية رغم ملموسية النتيجة. ف”اللاوعي مبني كالكلام” (جاك لاكان). بعد أربعة عشر قرنا من نفسية المقدس، يستطيع اللاوعي في الفصيح المكتوب المحنط، هزم وعي المنطق في الكلام المنطوق الحي. لذلك، كثيرا ما يهزم موت الذاكرة حياة الادراك في مجتمعنا المحافظ .
إقرأ أيضا: سناء العاجي تكتب: الساعة لله… وللحكومة!
ولحظتك رفقتها بطراوة الحديث كطراوة المنطوق مقارنة مع القُدْسِيَةِ المحنَّطة في الكتاب المتوارث بيننا، لا نتخيله إلا فائقا متعاليا فوق كل استنساخ دارج متواضع وضيع. لكن العلاقة الملتبسة دوماً والجميلة غالباً بين الأنثى (الذاكرة) والذَّكَر (الإدراك) تماما مثل العلاقة بين بطولة الذكورة وكيد الأنوثة. فرغم إصرار إدراك المقروء الأسطورة على جعل الأميرة أوربا كونها رحلت مجرد أنثى رفقة أخيها البطل قدموس، لكن انتقام ذاكرة الأنثى لمجرد ذكرى نقشت اسما في مخيال الذكر، تخيل نفسه قائدها الملهم والأستاذ وأصبح يسعى – في الأخير- أن يرسمل أوهامه ليصبح وصيّاً معتمدا. سرعان ما يخيب ظنه. تلك صورة أخرى لكنها موغلة في حزن الظن الأخير.
الكائن الحي يسعى دوما أن يقبض على أسد اللغة ليشعرها شعور كلب وقد أُمْسِكَ به داجناً بسلسلة في عنقه.
فانمحى اسم البطل قدموس وخُلِّد اسم مجرد مرافقته أوربا. هذا الانقلاب الآتي سيف معرفيٌّ في حده الحد بين الجد واللعب.
تلك تخوم “ما بعد الحداثة”، أو عقل “ما بعد الاستعمار والذكورة”، أو تواطؤ الجميلة غياتاري سبيفاك، مع الراحل ادوارد سعيد، لفتح آفاق مرايا جديدة حيث المستقبل بمثل العذوبة الأولى ما قبل القوالب والصور النمطية المقلوبة. يوم تتكامل الطبيعة مع الثقافة بدل تركهما في لعبة صراع الديَكة. ساعتها ستتكامل الغيرية والأنانية، بدل حروب الاشتراكية والرأسمالية طيلة القرن العشرين.