عبد الإله أبعصيص يكتب: الاستثناء الاعتيادي
استمعت مؤخرا لمحاضرة عن الاستثناء المغربي. ومن شدة إعجابي بالأفكار التي أثيرت في هذه المحاضرة آثرت أن أضيف بعض مظاهر الاستثناء التي يبدو أن المفكر أسقطها سهوا… أو عمدا ليس …
استمعت مؤخرا لمحاضرة عن الاستثناء المغربي. ومن شدة إعجابي بالأفكار التي أثيرت في هذه المحاضرة آثرت أن أضيف بعض مظاهر الاستثناء التي يبدو أن المفكر أسقطها سهوا… أو عمدا ليس يهم، لكن من باب التذكير ليس إلا.
قبل ذلك وكما أشار أحد الطلبة الباحثين في حينه، وجب التأكيد على أن هذا الذي يسميه كثيرون استثناء مغربيا، ليس أطروحة أو نظرية علمية، بل هي مجرد وجهة نظر في أمور الدستور والحياة العامة، قد نتفق وقد نختلف في أمرها… وقد نأخذ منها بعضا ونترك منها الكثير.
فقد يكون وهم الاستقرار هو الاستثناء، وقد يكون الإصلاح في ظل الاستقرار، وقد يكون تحالف اليمين واليسار… وقد يكون وقد يكون.
سيكون لزاما، قبل التفصيل في مظاهر الاستثناء المغربي، تعريفه بدءا حتى لا نتيه ونجد أنفسنا نرصد مظاهر الاعتياد. فالاستثناء لغة هو “حالة خاصة تخرج عن القاعدة العامة المتعارف عليها”. فما الذي يجيز لنا ومعنا كثير من الناس القول بالاستثناء المغربي؟
أكبر تجل للاستثناء المغربي هو أن يحاسب من لا يحكم ولا يحاسب من يحكم… ولعمري هذا دليل ألا استثناء في الأمر. فالاعتيادي الدائم الثابت هو الاستثناء، والاستثناء ونظرا لديمومته وتعود الناس عليه أصبح أمرا محتوما.
في كتابه المعنون بـ”الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية”، وقبل التفصيل في موضوعه، تساءل نجيب أقصبي عما يدعى الاستثناء المغربي، أهو أسطورة أم حقيقة؟ ووقف على ثلاث وقائع وأحداث رئيسية:
أولاها، أن المغرب من البلدان القلائل التي لم تتول فيها حركة المقاومة ثم حركة التحرير الوطني مقاليد الحكم بعد تحقيق الاستقلال. فأول مؤشر على ضرورة التعاقد المعلن والصريح بين الفرقاء السياسيين، كان هو هذه الواقعة. فقادة الحركة الوطنية آنذاك، وإيمانا منهم بضرورة الكفاح المشترك لضحد العدو المشترك، اشترطوا عودة الملك من منفاه لإعلان الاستقلال، لكن بمجرد تغير موازين القوى، سحب البساط من تحت إقدام من حملوا السلاح في وجه المستعمر وتم التخلي عن كل الاتفاقات. بل وتعرضت القوى الأساسية للحركة الوطنية لقمع شرس.
إقرأ أيضا: من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: حين سقطت راية…
ثاني الأحداث التي وقف عندها نجيب أقصبي، هي أن المغرب من البلدان التي لم تنل استقلالها كاملا بل على مراحل. والأدهى أن المعمرين الذين استولوا على مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية، ورغم إعلان الإستقلال، ظلوا يستغلونها كأن لا استقلال ولا هم يفرحون.
فالاستقلال والتحرر يعني استرجاع الأرض، لكن لأنه الاستثناء المغربي، فإعلان الاستقلال لم يغير من وضعية المعمرين شيئا.
ثالث الأحداث المؤسسة لأسطورة الاستثناء المغربي، هي تبني الفلاحة كرافعة أساسية للنموذج التنموي. ففي الوقت الذي كانت الصناعة عبر العالم هي عنوان التنمية، اختار من كان بيده القرار الفلاحةَ، ورهن البلاد بقطرات السماء حتى قال” تيودور ستيغ” المقيم العام الفرنسي ( 1925.1928 ): “الحكم في المغرب رهين بالمطر”.
…إنه الاستثناء المغربي وانعم به وانهب. وفي تلخيص شديد التركيز لهذه الوضعية، يقول نجيب أقصبي: “نحن إذن أمام واقع يتميز بما يلي: سلطة سياسية سارعت للتخلص من الحركة الوطنية، بلد لم يكمل بعد وحدته الترابية…. واقتصاد رافعته تسقط من السماء”… وما أشبه الأمس باليوم.
أغلب الفاعلين هم رجال أعمال ناجحين… وناجحين جدا. ولأنه الاستثناء المغربي، فإنهم يفشلون فقط في تدبير المال العام، أما المال الخاص فإنه يربو فقط… لأنه الاستثناء المغربي.
إنه الاستثناء…
وبعد مسار طويل من السياسات وبرمجة المخططات طويلة المدى وقصيرته، بدءا بالخماسي وما تلاه من أرقام، وصولا إلى المخطط الأخضر وما سيتلوه من ألوان، وبعد شد وجذب بين الدولة ومعارضاتها، من اتهام بالتآمر والانقلاب واتهام بالتسلط والاستبداد، وصولا إلى منعطف المصالحة خوفا من السكتة القلبية، كان الاتفاق بدون تعاقد، على انتقال بدون ضمانات… ونسي أو تناسى المعارضون القدامى ما حدث للأستاذ عبد الله إبراهيم وحكومته الوطنية.
وتناسوا ما حدث للحركة الوطنية.
إقرأ لنفس الكاتب: شرعية “البنية” أو شرعية القهر؟
إنه الاستثناء…الذي رهن البلاد والعباد. أي نعم أحيا الأمل حينها، لكنه ما لبث أن أطفأه بعد أربع سنوات إلى غير رجعة. وما أشبه البارحة باليوم وما أشبهها بالغد وما بعده.
… وجاء العهد الجديد واستبشر الناس خيرا. واكتشف البترول وهلل من هلل. وحل الإرهاب على حين غرة، فتحالف الكل على قطع دابره، ومرر قانون محاربته على عجل، وكانت المبادرة المدرة للدخل، لكنها مافتئت أن أضرت بالدخل… فمن مظاهر الاستثناء أن يقر الحاكمون بالفشل جهارا نهارا، ولا يسمحون لغيرهم أن يجهر به معهم.
السكتة القلبية وأين الثروة وفشل النموذج وتقارير المجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وغيرها من هيئات هي اعترافات بالفشل، ولأنه الاستثناء المغربي، فالفشل لا يسمح لغير مقترفيه بإدانته.
فلما خرج الناس للاحتجاج، زج بهم في السجون بعد اتهامهم بالخيانة. زد على كل ما سبق وغيره كثير وكثير جدا، أن الساسة في بلادنا السعيدة لا يفشلون في تجارتهم فقط، بل يفشلون في تجارتنا فقط.
يقول نجيب أقصبي: “نحن إذن أمام واقع يتميز بما يلي: سلطة سياسية سارعت للتخلص من الحركة الوطنية، بلد لم يكمل بعد وحدته الترابية…. واقتصاد رافعته تسقط من السماء”… وما أشبه الأمس باليوم.
فأغلب الفاعلين هم رجال أعمال ناجحين… وناجحين جدا. ولأنه الاستثناء المغربي، فإنهم يفشلون فقط في تدبير المال العام، أما المال الخاص، فإنه يربو فقط… لأنه الاستثناء المغربي. يكفي دليلا على ذلك أي عدد من أعداد المجلات المالية العالمية.
إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: حزب دولة… حرب وطن: ثم ماذا بعد أخنوش؟
ومن مظاهر الاستثناء أن قضت الدولة ثلاثة أرباع وقتها في تخريب ما يجهد الناس أنفسهم لبنائه. فكل الدول التي تحمل حقا هم شعوبها، تراهن على بناء المؤسسات التي تساعدها على تدبير الشأن العام… إلا في المغرب، عملت الدولة على تخريبها عن آخرها، حتى أصبح التقرب من مركز القرار غاية الغايات ومنتهى الأمنيات وبعدها… ليس يهم ما يحدث فالكل يعارض الكل والكل مستعد للتحالف مع الكل. فتجريب الأحزاب والنقابات صناعة مغربية خالصة.
إن أكبر تجل للاستثناء المغربي هو أن يحاسب من لا يحكم ولا يحاسب من يحكم… ولعمري هذا دليل ألا استثناء في الأمر.
فالاعتيادي الدائم الثابت هو الاستثناء، والاستثناء، ونظرا لديمومته وتعود الناس عليه… أصبح أمرا محتوما.