حفيدات فاطمة الفهرية أو التنوير بصيغة المؤنث: المدرسة والمستشفى قبل المساجد في عصرنا
على خطوات فاطمة بنت محمد الفهري التي تبرعت بمالها -الذي ورثته من أبيها- من أجل بناء أول جامعة في العالم، وهي جامعة القرويين بفاس في القرن التاسع الميلادي، عصر الظلمات …
على خطوات فاطمة بنت محمد الفهري التي تبرعت بمالها -الذي ورثته من أبيها- من أجل بناء أول جامعة في العالم، وهي جامعة القرويين بفاس في القرن التاسع الميلادي، عصر الظلمات والسبات عند أوروبا؛ تمشي اليوم سيدات أخريات!
سنة 2003، أقدمت فاطمة لمدرسي، وهي من أصول فكيكية، على عمل خيري، إذ تبرعت من مالها الخاص بما قيمته ست ملايين درهم من أجل بناء: “المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير” (ENCG) بمدينة وجدة حيث تقيم.
نحن في حاجة إلى فقه جريء، فقه واقعي يقول: “أركان الحياة خمسة: سكن لائق، صحة جيدة، تعليم مفيد، شغل منتج واعتقاد حر”.
سنة 2019، أقدمت نجية نظير، بدورها، على التبرع من مالها الخاص بما قيمته اثنى عشرة مليون درهم، وذلك من أجل بناء ثانوية وإقامة للتلاميذ إضافة إلى بعض التجهيزات.
هذه الأعمال الجليلة تستحق الإشادة والتنويه والتشجيع والاحتضان والتحصين.
اقرأ أيضا: من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: حمار التعليم وبردعة المنياري
لا أعلم لماذا، جل فائض الرأسمال “المسلم”، وحين يتعلق الأمر بالإحسان، لا يتجاوز أفقه الاستثمار في بناء المساجد وإعداد المقابر، دون غيرها من المرافق العمومية الأساسية: مدرسة، مستشفى، حديقة، ملعب، مكتبة، مسبح، طريق، إنارة، إلخ…
لعلها القراءة الظاهرية والفهم السطحي والجامد لحديث نبي الإسلام: «من بنى لله مسجدا من ماله، بنى الله له بيتا في الجنة»… أو لعلها العادة الموروثة عن الأجداد (هكذا وجدنا آبائنا يفعلون). أو لعلها هجانة هذا الرأسمال وأصوله الريعية أو غير النظيفة: (تجارة المخدرات، السرقة، الغش والتحايل، التهرب الضريبي، عدم تسديد ما بذمتهم من حقوق للمستخدمين…)، وأيضا غياب وعي الانتماء إلى الوطن وإلى الحياة العصرية المنفتحة على الأفق الإنساني الكوني الراهن.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه يقول: المدرسة بيت الله، المستشفى بيت الله، الشارع بيت الله، المصنع بيت الله، الإدارة بيت الله، الغابة بيت الله، الحديقة بيت الله، البحر بيت الله، الملعب بيت الله، الحافلة والقطار بيت الله كما أن المسجد بيت الله. والكون كله لله.
لا أحد يجادل أنه كانت للمساجد، عبر التاريخ الإسلامي، وظائف روحية وحضارية عديدة: دور التعبد؛ دور التدبير والنقاش السياسي؛ الدور التثقيفي والتعليمي والتكويني؛ الدور الاجتماعي، إلخ.
اقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
هذه الوظائف التي كانت تغطي جميع المجالات، تقلصت لاعتبارات عديدة منها ما هو مرتبط بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية.
حاليا، أصبحت للسياسة مؤسساتها الخاصة، وكذلك للمجال الاجتماعي والخيري. في نفس الوقت، أصبح للتعليم مؤسساته المتعددة، تقليدية وحديثة. كما أن الميدان الديني أصبح هو الآخر في قبضة الدولة الحديثة، مما جعلها تراقبه وتتحكم في تفاصيله. حتى المساجد، أصبحت في معظمها تحت وصايتها الشاملة. هكذا، وبعيدا عن الصلاة، لا أنشطة تمارس خارج علم السلطة ومراقبتها؛ والأئمة نفسهم إن تحدثوا داخل المساجد بما يتنافى والتوجه الديني وسياسة الدولة، يتم إنذارهم أو حتى توقيفهم وطردهم.
نحن في حاجة ماسة إلى فقهاء يقولون: “من شيد مدرسة أو مستشفى أو مصنعا أو حديقة، بنى الله له بيتا في الجنة”
في ظل هذه التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، لم تعد للمساجد الأهمية التي كانت عليها في الماضي. نحن لا نقلل من أهميتها، بل فقط نقول بأن وظائفها ومهامها تقلصت لصالح مؤسسات عصرية؛ وهذا لا ينقص ولا يقلل من مكانتها وقيمتها الدينية والروحية والمجتمعية كأماكن للعبادة.
اقرأ أيضا: زليخة نصري: مرايانا تستحضر سيرة أول امرأة مستشارة لملك المغرب
نعم، في دولة ضعيفة كالمغرب، هناك تبذير وإفراط في النفقة على بناء المساجد؛ إذ أصبحت تخصص مئات الملايين من الدراهم في بنائها وفي تجهيزاتها: رخام، زليج بلدي، جبص منقوش، خشب منقوش، أليمنيوم من النوع الرفيع، ثريات باهظة الثمن، صباغة جميلة وأفرشة من النوع الثمين تغير كل مرة، فضاء وباحة شاسعة، أئمة نجوم منتقون ومختارون حسب الشروط، إلخ.
هذه المصاريف، قد تتكفل بها الوزارة المكلفة أو بعض المحسنين. كما أن هناك تكلفا من طرف بعض المواطنين البسطاء في المساهمات، مع عدم إيلاء الأهمية لما هو أولوية كالتعليم والصحة والتجهيز. وفوق هذا كله، هناك تقصير في التوعية من طرف شيوخ وفقهاء الأمة. تقصير ناتج عن تركيزهم على ما هو شعائري وطقوسي في الدين.
الملاحظ في ظل واقع متخلف مطبوع بسياسات عرجاء تتسم بالاستبداد والارتجالية وسوء التسيير والتدبير، ومع استفحال الفساد الذي ضرب الضرع والزرع؛ في هذا الوضع العام، فإن المجال الديني بدوره أخذ نصيبه من الفساد والارتجالية وسوء التدبير، دون أن نتحدث عن الركود وانسداد الأفق الذي أصاب الفقه الإسلامي في شموليته، وانزلاق جله إلى نقاشات فيما هو شكلي مع استبعاد ما هو جوهري في هذا الدين.
اقرأ أيضا: خيرونة الفاسية… “زعيمة” المذهب الأشعري بالمغرب
نحن في حاجة ماسة إلى فقه يقول: المدرسة بيت الله، المستشفى بيت الله، الشارع بيت الله، المصنع بيت الله، الإدارة بيت الله، الغابة بيت الله، الحديقة بيت الله، البحر بيت الله، الملعب بيت الله، الحافلة والقطار بيت الله كما أن المسجد بيت الله. والكون كله لله.
نحن في حاجة ماسة إلى فقهاء يقولون: “من شيد مدرسة أو مستشفى أو مصنعا أو حديقة، بنى الله له بيتا في الجنة”، على منوال الحديث الشريف المذكور أعلاه.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه جديد وفقهاء مجتهدين ومجددين. نحن في حاجة إلى فقه جريء، فقه واقعي يقول: “أركان الحياة خمسة: سكن لائق، صحة جيدة، تعليم مفيد، شغل منتج واعتقاد حر”.
فهل نرى كوكبة من الفقهاء والشيوخ يحثون المحسنين ويوجهونهم، بل ويحثون عامة المواطنين إلى روح الشريعة، أي إلى المصلحة معلنين: “المدرسة والمستشفى، قبل المساجد في عصرنا” ؟
لا تنمية ولا تقدم ولا تحضر دون استحضار الإنسان كجوهر وكمركز وكأفق في أي مشاريع إصلاح، حتى عندما يتعلق الأمر بالإصلاح الديني.
وخير ما أختم به هو هذه المقولة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “إن كرامة الإنسان هي القيمة المطلقة التي لا يمكن التفاوض حولها مع أي سلطة مهما كانت”.